في الحلقة الماضية كنا قد عرفنا الغلو لغةً وإصطلاحاً ، وها نحن اليوم ندخل في أبواب ومفاهيم الغلو ، أين وكيف ؟ ، وبما إننا قلنا : إن الغلو هو ظاهرة غير طبيعية ناتجة عن خلل في الفكر وفي المتبنيات الفكرية والسلوكية ، لهذا ربطنا هذا الخلل في الفكر بما ينتج عنه وما يؤدي إليه ،
وحين يكون الخلل في الفهم فإننا نعتبر ذلك إبتعاد عن الحقيقة والركون إلى الوهم والإنبهار بكل ماهو غير منطقي وعقلي ، طبيعي إن للغلو أسباب وطبيعي أن تكون له نتائج وآثار ، لكننا نعتبرالغلو مرتبط :
1 - نتيجة و سبب لما هو متراكم في الذهن من أفكار غير صحيحة للدين وللحياة ، فآثار أهل الديانات من الملل والنحل الذين سبقونا لهم دور فيما نحن بصدده .
2 - كذلك هو مرتبط بالفعل السياسي وبالحراك السياسي كالذي نشاهده من الفرق والأحزاب والطوائف وكيف تعظم زعمائها وقادتها سابغين عليهم كل فضل وفضيلة ، يأتي هذا في سياق البحث عن الهيمنة والنفوذ والتسلط ، وهي ومن أجل هذا تتبنى كل ماهو غير واقعي ، لكن القصد منه حرف الأنظار والعقول .
3 - كذلك يكون الغلو تعبير عن الذم كرهاً وقدحاً ، فهو من معاني الأضداد ، يجري في المدح كما يجري في الذم .
4 - ويرتبط الغلو بالجهل وبالتزييف الذي يعمد على إتباعه بعض رجال الدين ، يروي السيوطي في الدر المنثور عن محمد بن كعب إنه قال : لما رفع الله عيسى أبن مريم أجتمع من علماء بني إسرائيل مائة رجل ، ثم أختاروا أربعة منهم للنظر في أمر عيسى ، وقالوا : ما تقولون في عيسى ؟ فقال رجل منهم : هو - الله - كان في الأرض ما بدا له ثم صعد إلى السماء حين بدا له .
وقال الآخر : هو أبن الله .
وقال الآخر : إنه عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم .
قال فخرجوا على الناس ، فقالوا لرجل منهم : ماذا قلت ؟ قال : قلت هو الله ، وقال ألاخر : إنه أبن الله ، وقال الثالث : هو عبد الله وكلمته وروح منه - الدر المنثور تفسير النص 72 - ...
في هذه الحكاية نلتقي بصنف من البشر لديه القابلية ولديه القدرة على تزييف الحقيقة ، هذا التزييف أساسه ومستنده الجهل والتضليل ، وقيل : بل إن هذا التزييف أساسه الحب الذي يخرج عن الحد ولا يلتزم بالناموس والقدر الطبيعي ، لكنا نعلم إن الله حين أرسل الأنبياء والرسل كان له هدف وغاية أساسها تحرير العقل وتنويره لكي يبتعد عن الخرافة والتضليل ، وتحرير العقل عند الله يرتبط بتحرير أدوات المعرفة لتكون فاعلة وكاشفة وقادرة بيسر وسهولة الكشف على الحكم وهداية الناس إليه .
وظاهرة الغلو أصابت كل أجزاء وحياة المجتمع الإسلامي لدى السنة والشيعة على السواء ، فهؤلاء أتباع ومريدين الإمام أبو حنيفة قالوا فيه وفي حقه مازاد في الوصف والتعبير عن الأنبياء وفضائلهم وكراماتهم : وأبوحنيفة [ هو النعمان بن ثابت بن زُوِطي - بضم الزاء وفتح الطاء - والزوطي هذا رجل من أهل كابل وقع أسيراً حين فتحت كابل ، ثم إشتراه رجل من تيم وأعتقه ، وأما ثابت والد النعمان فلم يذكر عنه شيء في كتب التاريخ ، وقد أُختلف في محل ولادته فقيل في ترمذ وقيل في نسا وقيل في الأنبار وقيل في الكوفة ] ، نعم قيل فيه وفي حقه مدحاً وذماً ما لا يقال في أحد ، كقولهم : إنه كان يُعلم الخضر أحكام الدين في حياته ومن بعد مماته !!!!! .
مع إننا نعلم إن الخضر الوارد ذكره وصفاً في سورة الكهف كان يعلم موسى النبي أنظر النصوص من 65 إلى 82 من سورة الكهف ، ونحن نعلم إن موسى نبي وإنه كان من أولي العزم ، ومع ذلك كان لا يعلم الكثير من الأشياء والنصوص التي أشرنا إليها تحدثنا عن ذلك ، لكننا في رواية أبي زهرة صاحب كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج1 ص 299 ، نلتقي بحكاية مختلفة وملفقة وغير منطقية يكون فيها أبوحنيفة معلماً للخضر !!!!! ، هذا التسويق لهذه القصص كان يُراد منه تزييف الحقيقة في عقول المريدين ، إنه الغلو الناتج عن الجهل و الحب الأعمى الذي لا يستند ولا يقوم على دليل .
وفي نفس هذا السياق من التزييف روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن محمد بن يزيد عن سليمان بن قيس عن أبان بن أبي عياش عن أنس عن النبي إنه قال : - سيأتي من بعدي رجل يُقال له النعمان بن
ثابت ويُكنى أبوحنيفة ليحيين دين الله وسنتي على يديه - تاريخ بغداد ج2 ص 289 .
وفي تعليقه على هذه الرواية قال الخطيب البغدادي : هذه رواية باطلة وكاذبة ومزيفة ، ففي سندها محمد بن يزيد الذي قيل في حقه إنه متروك الحديث ، ولأن فيها إيضاً سليمان بن قيس وأبو المعلى وهما رجلين مجهولي الحال ، وأما أبان بن أبي عياش فمتهم بالكذب - قال الذهبي في ميزان الإعتدال وأبن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب : إن أبان بن أبي عياش ضعيف كذاب – .
لاشك إن الذين ينسبون لأبي حنيفة ماليس فيه ، يحطون من قدره ومنزلته العلمية التي هي عندنا محل إحترام وتقدير ، فهو عالم جليل ومجتهد فذ ، لكن ماذا عسانا أن نقول لمن يعتبر إن المسيح حين ينزل من السماء ويعود إلى الأرض سيتبع مذهب أبي حنيفة ؟ ، وماذا عسانا نقول لمن أدعى بأن أبوحنيفة لم ينم طوال 40 سنة من عمره ، وإنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء ؟ ، وماذا عسانا نقول لمن أدعى إن أبوحنيفة كان يكلم البهائم والأنعام ؟ ، وماذا نقول لمن أدعى بان أبا حنيفة قد ختم الكتاب المجيد 70 الف مرة وهو لم يبارح مكانه ؟ !!!! ، و ماذا نقول لمن قال : بان الله قد ذكر صفات ابوحنيفة في التوراة مبشراً به وبولادته ؟ ، ماذا نقول لهؤلاء ؟ ولماذا يدعون ذلك ؟ ، لماذا هذا الغلو وعدم الإنصاف ؟ لماذا ؟ .
وفي مقابل هذا الضخ من الإدعاءات والكذب والتزييف يقابله قدح وذم خطير لا ينم عن إيمان ، فمرة أتهموه بالزندقة وفساد العقيدة والدين ، ومرة نفوا عنه صفة الإيمان والإسلام ، ومرة ثالثة قالوا عنه قد كفر مرتين ، وبانه شر من ولد في الإسلام !!!!
هذا الغلو في الحب والكره أساسه الجهل وعدم الإنصاف وتزييف الحقايق والإعتماد على العاطفة دون العلم والعقل ...
يتبع