سطر لنا التاريخ، وعلمتنا تجارب العقل البشري، بأن الثقافات المشتغلة بالسؤال عن المستقبل، او الباحثة به في آن، هي ثقافات متعلقة بالتحول، الباحثة عن التغيير، الساعية الى التقدم والبناء والرقي. وبالقدر الذي تعي به الثقافة سؤال المستقبل،
من حيث هي عنصر حضور فاعل في تكوينه تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتي.. وبقدر غياب سؤال المستقبل عن الثقافة، والهوس بماضيها، الذي بقي يشغلها عن حال التنور والتجديد، وتحديث العقل الماضوي المتردي الذي يحول ما بينها وبين التطلع الى ممكنات الغد الآتي وآفاقه بكل ألوان الوعد.. وعندما نتأمل حضور او غياب سؤال المستقبل في الثقافة، على هذا النحو، فأن حضور السؤال نفسه او غيابه، هو ما نتطرق إليه في هذه السطور.. وهو هدف تأملنا وإهتمامنا، بوصفه شرطاً يضيء بأتجاه تحرير العقل الجمعي والنخبوي معا من قيودهما وإحداث نقلة نوعية من شأنها ان تجدد الذهنية الساكنة وتعيد النظر بالتفكر بأحداث الماضي السحيق والحديث، وما يُستحْدث من إشكالات، في فضاءات ديمقراطية خالية من التطرف الحداثوي، والإصابة بأمراض الهوس الماضوي والمتخندق وراء المقدس، أو أي اتجاه يصب في محاور الانحراف والتحييز او الإنغلاق، ان هذه ليست معرقلات تعجيزية مشروطة، بل هي آليات عمل عقلاني تحدد مسارات الاشتغال الذهني وتبلور رؤاه. ان بعضاً مما يتجلى من المدلولات وما تنطوي عليها، هي غاية وليست وسيلة فقط، لا تكون إلا إنسانية فحسب، منتجها ثقافة المساواة واحترام العقل الآخر، وهي باحثة عن ايجاد مراكز استقطاب جديدة داخل مفاصل العقل الجمعي تتوخى جوهر الصراع، وتفتت اواصر المنظومة الإستبدادية للدولة (الدكتاتورية/ العسكرتارية/ البرغماضوية/ التوليتارية) التي كانت ولا زالت المهيمن والمشغل الرئيسي لبؤر التوتر والصراع والإحتقان قرابة قرن مضى في العراق!! تلك شروط توازن متحضرة تضيق وتجسر الهوة ما بين ما هو حضاري متحرك وماضوي راكد،ولو تأملنا خطورة التحديات التي يمر بها العقل العربي، فأننا يقينا سنستخلص بأنه نتاج صناعة متقدمة أنتجتها مصانع الدولة البرغماضوية... (التهميش/ القمع الفكري/ الملاحقات/ التشريد- القتل الفردي/ الجماعي/ القتل العشوائي وآخرها التفجير الواسع الوحشي الذي لا يبقي ولا يذر مثلا على خلفية الصراعات السياسية الدموية التي إندلعت بين الاحزاب والتيارات المختلفة في العراق منذ 8 شباط عام 1963 والتي كانت بادرة للكراهية والاحتراب والإقصاء!! عانى العراقيون من نتائجها الكارثية حتى وقتنا الحاضر، ودفعوا فاتورة حسابها الثقيل (رجالا/ دما/ فكرا)، كان للعقل البراغماضوي دوراً اساسياً في إذكاء عوامل الصراع والاحتراب فيها، وقد خسر في اتون تلك المعارك الكثير من مفكريه ومثقفيه في مجالات الفكر والادب والشعر والمسرح والتشكيل، مثل المفكر الكبير الشهيد محمد باقر الصدر والمفكر هادي العلوي وحسين قاسم العزيز وعزيز السيد جاسم وفيصل السامر وغيرهم ولم تتوان الحركة الفكرية في العراق عن تقديم منهجها العقلاني والفكري، بالرغم من شراسة ووطأة الضغط اللاأنساني عليها، لتقييم وتقويم تلك التجارب، كضرورة ملحة للاشتغال والتصدي، فكان منتجاً (سرياً وعلنياً) يؤشر بإتجاه الفراغات او الحلقات المفقودة او المتهرئة التي سببها تهميش او إقصاء دور العقل في تلك المراحل وايضا أشر الى ان المنظومة المهيمنة ما هي إلا نتيجة معقدة من نتائج الفكر البراغماضوي. وسواء كان الإشتغال في دائرة التأمل عن سؤال المستقبل في الثقافة، او الثقافة نفسها، فأن كلا الوضعين وجهان لعملة واحدة لا تنفصل، كونها لا يمكن أن تكون الثقافة او المثقف معاً فيها داخل إطار إرهابي مستفز وعلى ظلال خلفيات تلك الصراعات، القديمة والحديثة، قد تم دفع حساباتها وخرج الفرقاء منها خاسرين!. وفي هذا التعقيد الفكري، لم تكتف المنظومة البراغماضوية المهيمنة بعد أن خسرت دولتها في العراق بالكف عن العزف على أوتار مشروعها الخيالي، بالرغم من فداحة الإنكسارات في المجالات المختلفة، وبالخصوص داخل تركيبة البنية الاجتماعية المؤسسة للبناء والتي لا زالت تغرد خارج السرب العالمي، بدلا من الالتحاق بالركب الحضاري والتحاور معه بدل الاصطراع، أما أهم إخفاقات تلك المنظومة فهي: -إنتكاسة 5 حزيران عام 1967. -قفز أنظمة حكم عسكرتارية شمولية بدل الانظمة الديمقراطية على كرسي الحكم ولفترات طويلة. -محاولات سريعة للانقضاض على معظم الانظمة الوطنية. -إستخدام الغزو بدل الحلول التحاورية السلمية لحل المعضلات. -الأعتداء على الدول في شن حروب غير مبررة عليها. -قمع الانتفاضات الشعبية بطرق وحشية. -سقوط نظام اكبر دولة (براغماضوية) أُدهش الجميع وبدون مقاومة تذكر. هذا على الجانب السياسي. أما على الجانب العقلي "الفكري" فقد عملت واستغلت هذه المنظومة على: -شل وتقويض كل محاولة لتحريك العقل النقدي من مجالات التعليم العالي والبحوث النقدية. -السماح بإنتشار وأنشطار البؤر (التكفيرية- الإقصائية- الماضوية) داخل مؤسسات المنظومة المتسلطة. -إحياء افكار ومبادئ قدمة مثل (الطائفة المنتصرة- التقية- أطاعة اولي الامر). -وضع حواجز كونكريتية وكوابح للمشروع العقلي النهضوي النقدي المستقبلي. -خلو البلدان تلك من معاهد البحوث الستراتيجية (الانثرودولوجيا). وقد تصدى مفكرون عرب وعراقيون لتلك المرحلة وغيرها من أمثال المفكر العلامة علي الوردي والمفكر زكي نجيب محمود، والمفكر ابراهيم زكريا، والكاتب صادق جلال العظم في كتابه :نقد الفكر الديني عقب انتكاسة حزيران 1967 ومحاولات الكاتب الكبير لويس عوض في كتابه "فقه اللغة العربية" والمفكر نصر حامد ابو زيد، تلك الاسهامات التي صبت في تحريك العقل العربي والسير به بأتجاه الإحتكام للعقل والمنطق بإعتبارهما المرجعين الوحيدين اللذين لا خلاف لمنتجهما. وأنها أيضا تهدف الى إحداث (هزة او رجة) في العقل العربي الخامل، للخروج به من ازمته وإشكاليته.. كان ذلك على صعيد الفكر نفسه. أما من حيث إنسجامه وسيرورته مع ما يطرح من منتج نقدي إنساني، يشترط العقلانية، وبدونها لا يمكن الاجتهاد والتدبر والقياس.. وهو شرط حي ذو بنية صلبة ترى ضرورة النزوع لتأمين حوار متحضر مع الآخر يرنو للمستقبل ويفتح آفاقاً ونوافذ على العالم. أن تأمل واقع ثقافي عقلاني يئن ألماً، لا يمكن ان يحتوي حضوراً قطعاً.. بل هو عدم جدوى السؤال عن المستقبل، وهو عملية إجهاض مقصود لبذرة التجريب والتحديث، أما الوضع الآخر، وهو نقيض الاول، لكونه وعي يدعو الى إخراج العقل من عنق الزجاجة وتهشيم هيمنة العقل الديماغوغي المتمترس وراء المقدس، الذي ما زال يعشش على العقل الجمعي العربي، وان هذا الوعي لا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصرا من عناصر الحاضر الذي لا يقبل التحول والمساءلة.. ولهذا هو لا يعرف الحلول الجاهزة.. او الاجابات المسبقة، ولا يؤمن بالمطلقات والتحجر. فهو وعي متحرك يصب بالاتجاه المطلوب، الاتجاه المستقبلي الذي هو هدف ووسيلة لا يمكن إغفالهما: وقطعاً ستكون وحدة فاعلية الثقافة ترفد الثقافات من معين مجرد من التحيز للماضي. او الركون الى مناطق مظلمة رخوة فيه تستهوي المريد المهووس به يحاول شلّ وشدّ حياتنا اليومية الى الوراء على نحو يبقى السؤال عن المستقبل غائبا، وليس عنصراً من عناصر الحيوية. ويبقى الراشح النقدي العلمي هو المحرك وهو العازل الحافظ لنزاهة العقل واستقلاليته، وهو صاحب عملية التفكيك لعقد الزواج الكاثوليكي بين البراغماتية الطامعة للهيمنة والماضوية المتمترسة وراء المقدس ومهما يكن من أمر فأن الدعوات النقدية العلمية لقراءة الاسرار الغامضة في "العقد الكاثوليكي" هي دعوات نهضوية لثقافة الحوار والعقل، تقودها نخب متفتحة للنهوض بالعقل وتحريره وإستقلاليته، وتلك مهمة ليس بالسهلة او اليسيرة، إلا أن مؤشر بوصلتها يشير الى الاتجاه المستقبلي وآفاقه الرحيبة. ـــــــــــــ (* البراغماضوية): مصطلح يجمع مفهومي البراغماتية والفكر الماضوي الذي هيمن على العقل العربي ردحاً من الزمن في معظم البلدان العربية.