شنت محافظة بغداد حملة على نصب تذكارية وأعمال فنية، وأخذت المعاول تقلعها، قلع "طالبان" لتمثالي بوذا اللذين كانا يدران على أفغانستان ثروة لحج البوذيين إليهما، من الصين وجنوب شرق آسيا واليابان، إضافة إلى السياحة العالمية، لكن "طالبان" لم تكترث لهذا. ربما لا يعجب محافظ بغداد، أو بقية مسؤولي المحافظة عملاً فنياً، لعقيدة حزبية أو عقلية ضيقة. لكنه ليس الآمر بأمره، مثلما كان المحافظون من قبل، إنما هناك فنانون يُستشارون وناقدون فنيون يميزون بين الفن وبين تركة النَّظام السابق، ويبدو أنه تحول إلى شبح يُطارد المحافظ، الذي يريد بغداد باكية مغبرة، ليس فيها سوى معول المحافظ، يهدم ما يشاء من الحيطان، وليس بعيداً سيأتي يوم يُرفع فيه شارع الرشيد من قلب بغداد، لأنه يُذكر بهارون الرشيد، المتوفى قبل إثني عشر قرناً ويزيد، وباسم القانون لأن المحافظ يمثل دولة القانون!
حَكمَ "البعث" العراق خمسة وثلاثين سنةً، وهي فترة ليست بالقليلة قياساً بالفترات الأُخر، فهل يُعقل أن تمنح كل الإنجازات الفنية والمعمارية والأدبية لرموز ذلك الحكم! أعتقد في هذا التصور تجاوز على العقول والفنون، من الذين لم ينتموا للأحزاب المعارضة آنذاك، أو لم يتحملوا عبء النشاط السياسي، ووجد كلٌّ منهم طريقته في المهادنة مع القسوة، وتحايلوا على سلطتها من أجل هذا العمل الفني أو الأدبي، وهذا ما كان مع نصب اللقاء، والذي هو بالأصل تخيل لقاء بين امرأة ورجل، وافقت عليه السلطة السابقة، وبالفعل ظل النصب أحد العوالم الفنية الرائعة في أجواء بغداد.
فلماذا هذا التحسس وقد أصبحتم سلطة، وأمام أعينكم أُعدم صدام حسين (2006)، وأُعدم رمز القسوة المنفلتة من عِقالها علي حسن المجيد (2010)، وبقية الرموز مقيدون داخل قفص الاتهام! فلماذا يقلقكم نصب أو لوحة فنية، فإذا لم تريدوا أخذ نصب "اللقاء" بحقيقة موضوعه، مثلما صممه الفنان والطبيب علاء البشير، وهو لقاء بين الأنوثة والذكورة لبناء هذا المجتمع، فخذوه على أنه لقاء الحرية في عهدكم، ودليلاً على نهاية عهد مضى وولى، وأثبتوا أنتم الأفضل. بل أكثر من هذا أن النصب يقع على مفترق طرق، وعنده تلتقي مواكب المسافرين بالمستقبلين والمودعين، وقد حصل أن أصبح هذا النصب مكاناً يتبادل فيه الأسرى والمهجرون من العنف الطائفي، من دون أن يقتل أحدهم الآخر.
أما ما يخص بقية النصب التذكارية، فلابد أن تؤخذ كشاهد على تلك الحقبة، ولتفسر أيضاً بأعمال فنانيها لا بالرموز التي عبرت عنها، وفي هذا المجال صنف من أجلها كنعان مكية كتاباً تحت عنوان "النصب التذكارية"، ومكية عن طريق مؤسسة الذاكرة، التي أُبعد دورها وحوصرت محاصرة ستغلق بابها، حاول الإبقاء على تلك النصب كدلائل على الحقبة السابقة، التي لابد أن يتذكرها النَّاس، من أجل الحيلولة دون تكرارها.
وهي أعمال كبار أهل الفن: نصب الجندي المجهول (1982) من أعمال الفنان خالد الرحال، ونصب الشهيد (1983)، من أعمال الفنان إسماعيل فتاح، وقوس النصر (1989)، وغيرها من النصب والتماثيل، التي نفذت إثر الحرب العراقية الإيرانية (1980 -1988)، فهي أعمال تشهد على سنوات تلك الحرب. وكيف تريدون إخلاء الذاكرة منها ونصف مليون شاب عراقي هلك فيها، ولا أظن الألمان قد هدموا قوس النَّصر، الذي شيده هتلر، وهو الآن معلم من معالم برلين، يتأمله الزائرون كمنجز معماري، ولم يذكرهم بعرش هتلر الزائل!
هنا لا بد من التذكير بأمر يشبه الحالة، إلى حد بعيد، وليعتبر به. أقتبس من ابن عبدوس الجهشياري (ت331هـ) قصة محاولة هدم إيوان كسرى، قال: «أمر الرشيد يحيى بن خالد (البرمكي) بالتقدم في هدم إيوان كسرى، فقال: لا تهدم بناءً دل على فخامة شأن بانيه، الذي غَلبته وأخذت ملكه. قال (الرشيد): هذا من ميلك إلى المجوس، لا بد من هدمه! فقدر للنفقة على هدمه شيء استكثره الرشيد، وأمر بترك هدمه، فقال له يحيى: لم يكن ينبغي لك أن تأمر بهدمه، وإذ قد أمرت فليس يحسن بك أن تظهر عجزاً عن هدم بناء بناه عدوك، فلم يقبل قوله ولم يهدمه» (الوزراء والكتاب). القصة واضحة لا تحتاج لتأويل وتفسير، وها هو الإيوان واحدة من مآثر العمران العراقي، يأتيه السائحون من كل فج عميق، لرؤيته، ولم يسأل أحد عن كسرى وملكه، إنما يسألون عن عمارته.
لابن بحر الجاحظ (ت 255 هـ) رأي في تعاقب الدول وهدم الجديد منها لأثر القديم، وما في ذلك من مسخ للذاكرة، فلا كسرى شيد الإيوان ولا صدام شيد نصب اللقاء، إنما هم معماريو وفنانو العصور. قال الجاحظ: "لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يُميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب المدن والحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم أيام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، وكما هدم الآطام (الحصون) التي كانت في المدينة، وكما هدم زياد (ت 53 هـ) كل قصر ومصنع كان لابن عامر (ت59هـ)، وكما هدم أصحابنا (العباسيون) بناء مدن الشامات لبني مروان" (كتاب الحيوان).
أقول: ما حصل في التاسع من أبريل 2003 ليس انقلاباً ولا ثورة، إنه نادرة من نوادر التاريخ المعاصر، وليس لحزب أو جماعة عراقية فضل فيه، لذا لا تتعاملوا كأهل انقلاب وثورة، وأهل غزو، يدمرون ما يجدون في طريقهم، واحفظوا لهولاكو (ت 664 هـ)، أنه لم يهدم المدرسة المستنصرية التي شيدها والد المستعصم بالله، عام 631 هـ، ولم يحولها إلى خان أو إسطبل لخيول جنوده، إنما تركها مدرسة وباسمها، مع أنها إرث عدوه. فإن لم تريدوا التقيد بما فعله الرشيد، فلكم بهولاكو مثلاً، فالغزاة لا يخلون من حسنات.
رحم الله أستاذ الجيل حسين محفوظ (ت 2009)، وقد أوصى بكل أثر: "أدعو الجميع إلى الاحتفاظ بالتراث، والاهتمام بسلامته، والمحافظة عليه". ما حصل ويحصل من هدم للنصب التذكارية التي ليس فيها ما يشير إلى شخصية مجسدة، مثل التي ذكرنا، فعل غير مبرر، واعتداء سافر على فنانيها، والجيل الذي عاش حقبتها، ويفصح عن عقلية يُخشى على البلاد من هواجسها.
المصدر صوت العراق