ساد في اوربا في القرون الوسطى مفهوم الملكية المستمدة من الله، حسب نظرية الحكام والتي كان يطلق عليها نظرية (التفويض الالهي) إذ اعتبر الملك هو ظل الله في الارض! وكان ذلك بمثابة حجة لممارسة القهر من قبل الملوك ضد المحكومين بإعتبار ان هذه السلطة هي سلطة عليا ولا يجوز مقاومتها..
وهكذا نشأ الحكم الملكي المطلق في القرن السادس عشر، حيث نتذكر هنا مقولة لويس الرابع عشر في فرنسا والقائلة (أنا الدولة) وقد وجد من يبرر هذا الحكم من المفكرين أمثال (ميكافيلي وبودان) الا ان بروز الليبرالية في القرن الثامن عشر أدَى الى تبني الديمقراطية، التي ترتكز على حرية الانسان المطلقة والتي لا تحدها اية حدود، إيمانا من هدف الليبرالية الكبير بوجودالتنافس الحر بين القوى المنتجة!
الا ان هذه الديمقراطية ادت مجددا الى تسلط الاقوياء على الضعفاء والى استغلال الاغنياء للفقراء !! وقد حصلت ابان ذلك ازمات كبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ما جعل المجال واسعا أمام بروز الحركات السياسية والتيارات الاشتراكية والى ظهور حركة نقابية كبيرة، والتي تحت تأثيرها إضطرت السلطات الحاكمة الى إجراء الاصلاحات الاجتماعية، الامر الذي أدى ظهور النظام الديمقراطي المتقدم، فقد حاولت السلطات إقناع الجماهير بأنها ستوفر لهم الحرية والمساواة مع التمتع بالحقوق كافة.. إلا ان الايام قد أثبتت العكس من ذلك، فقد ظهرت الانظمة على حقيقتها في (الاستغلال والتحكم) كما وظهر ان الحقوق الدستورية لا وجود لها الا في النصوص وحسب !!
ومن هنا نشأت الماركسية التي تدعو الى دحض مزاعم الليبرالية والعمل على كشف طبيعتها التي تقوم على واقع الصراع الطبقي، حيث كانت تدعو فيه الى انتصار طبقة العمال على الطبقات الاخرى، لتكون السلطة فيها(حكرا) لها، فالديموقراطية لديها هي حكم البروليتاريا، وهكذا اصبحت الماركسية ترى أنها لا يمكن تحقيق الديمقراطية لسائر فئات المجتمع الا في ظل الاشتراكية الماركسية..
وإذا كانت الديمقراطية قد تطورت بفعل الواقع الاجتماعي والاقتصادي في اوربا وذلك عن طريق نمو الحركة التجارية وبداية الحركة الصناعية في النهوض.. ومن هنا فقد تضاربت مصالح هذه الطبقة مع مصالح الاقطاعيين الذين كانوا يسيطرون على السلطة السياسية في سائر انحاء اوربا.. وهكذا فقد نشأ الصراع بين الطبقة الصاعدة والطبقة القديمة (د. عصام سليمان /الديمقراطية ص 11) ولقد إمتازت الفلسفة الليبرالية بتعظيم المنافع والقدرات الفردية في ان واحد، وهذا يعني ان المجتمع الليبرالي قادر على تحقيق تلك المنافع للفرد بقدر معين لا يستطيع فيه اي مجتمع غير ليبرالي تحقيقه بإعتباره يدعو الى استغلال كامل لقدرات الانسان في العمل بحرية تامة، فالفرد هو ادرى الناس بحاجاته وهو قادر على تلبية حاجاته تلك، بقدراته الذاتية ودونما تدخل من السلطة.. وكان (جيرمي بنثام) يرى ان المجتمع الذي يحقق اكبر قدر من هذه المنافع هو المجتمع الافضل، وان على الانسان ان يسعى للتملك لانها وسيلة لاشباع الرغبات (المصر السابق ص 11) وهذه هي الفرضيات التي قامت على اساسها النظرية الليبرالية، والتي ترتكز على النزعة الفردية بأقصى درجاتها ! وهكذا جرى العمل على تزييف معنى الديمقراطية الحقيقية، وإتخذت هذه الليبرالية شعارا لاستغلال الاقوياء للضعفاء، لان الحرية وفقا لهذا المنظور إقتصرت على افراد الطبقة العليا، كما ان المساواة لم تتحقق عمليا، وهكذا فقد إستأثرت البرجوازية بخيرات المجتمع، وبقي الفقراء على فقرهم إلا من الضروريات الاساسية للبقاء أحياء..
واننا اذا اخذنا جوهر مفهوم الليبرالية فانها تستند الى مقومات ثلاث هي : الحرية، المساواة، وحقوق الانسان !! لكن هذه المفاهيم والشعارات كانت مقيدة بالتنافس بين القوى المنتجة التي تتخذ من شعار (دعه يعمل. دعه يمر!) عنوانا لها فالتنافس الحر، كما يذهب اليه ادم سمث يتعين ان لا تتدخل فيه الحكومة بحجة تحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي، وهي الاداة التي تضبط فيه النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وتعمل ايضا على إصلاحها.. وهكذا فقد أصبحت الحرية وفقا لهذا المفهوم ترتكز على (نزعة فردية متطرفة) تدعو الى تمجيد الفرد والقيم الفردية، وهذا الامر سرعان ما وجد طريقه الى مجالات اخرى : مثل حرية المعتقد، وحرية التعبير وإبداء الرأي، وحرية النشر وغيرها من الحريات العامة المتمتمة للحريات الاقتصادية والمنبثقة عنها، وهكذا انتقلت النظريات الاقتصادية الى النظريات السياسية بالضرورة فللانسان ان يختار من يمثله في المجالس البرلمانية. كما ان حرية التنافس الاقتصادي قد قادت بدورها الى حرية التنافس السياسي ! أما الحريات العامة الاخرى، كحرية إبداء الرأي والمعتقد والنشر، فان الليبرالية تراها منسجمة مع مقولاتها التي تدعو الى الحرية الاقتصادية ضمن الحدود التي تؤمن مصالحها وهم يرون ان التنافس الاقتصادي لا يتم الا في ظل (الاقتصاد الحر!)فهو الذي يؤدي الى الازدهار والرفاه والى تدفق الخيرات على المجتمع ! بينما نرى ان الواقع التطبيقي للنظام الليبرالي يؤدي الى تعميق نظرية (عدم المساواة) وانك تجد ان هذه المساواة في النصوص فحسب ولاتتجاوزها.. وإذا كان كل من جون لوك، وجان جاك روسو، قد دعوا الى نظرية العقد الاجتماعي، حيث أفاد هذان المفكران بان الحقوق تنبع من(وجود الانسان وممارسته لهذه الحقوق) ولا يحدها حد الا عند ممارسة الاخرين لحقوقهم، وان هذه الحقوق يتعين النص عليها لتصبح قانونا.. ويرى البعض ان هذه الحقوق انما هي مثالية، لان واقع الانسان هو الذي يحدد مقدار الحقوق التي يتمتع بها(د. سليمان ص 14) وهكذا كانت بداية النظام التمثيلي في بريطانيا وقد استغرق ذلك حقبة طويلة من الزمن حيث توطدت اركان هذا النظام وبرز بالشكل المعروف عليه في عصرنا الحاضر، والذي شكل النواة للنظام التمثيلي في البرلمان، وقد دخلت فيه الانظمة البرجوازية والارستقراطية الى هذا البرلمان باعتبارانهم يمتلكون الاراضي الزراعية والاموال والجاه الاجتماعي !!
وإذا كانت لائحة (الماكناكارتا عام 1215) قد جاءت ضمانا لنفوذ هؤلاء الارستقراطيين من النبلاء والامراء، بحيث جاءت لتنظم العلاقة بينهم وبين الملك جون، تحت ظل النظام الاقطاعي الذي كان سائدا وقتذاك بشكل يضمن حقوقهم ومصالحهم، حيث حرم على الملك حق فرض الضرائب او مساعدات بدون موافقة المجلس الاقطاعي الذي كان بدوره يتألف من الامراء ورجال الدين المسيحيين ورؤساء الاديرة، الامر الذي أَدى الى نشوء بلديات ومدن أحيانا تدار شؤونها ذاتيا خارج نفوذ النبلاء ورجال الدين، بعد ان قوي عود البرجوازية حتى دون الحاجة الى حماية من الاقطاع او نفوذهم.. الا ان هذه المدن كانت ايضا في الواقع العملي خاضعة لنفوذ البرجوازية، وكان حق الانتخاب فيها يقتصر على الاغنياء فقط ! ومن هنا نشأت مجالس في العديد من المناطق الاوروبية نتيجة لتوسع نطاق مجالس الملوك الذين كانوا ممثلين لهذه البرجوازية..وقد تحولت هذه المجالس من إقطاعية الى مجالس تشارك فيها البرجوازية لتوسيع المبادلات التجارية والاقتصادية مع ظهور زيادة في الاعباء الادارية والدفاعية، لذا فقد توجهت الانظار الى البرجوازية بالنظر لظهور قوتها الاقتصادية خصوصا وانها كانت في أوج صعودها ونموها.. وكانت هذه المجالس تعقد بناء على طلب من الملك وأخذت تشرف تدريجا على مختلف الشؤون المالية للدولة وجباية الضرائب وطريقة صرف الاموال ومن هنا تكونت النواة الاولى لوظيفة البرلمان، حيث تطورت بعدئذ وصارت مهمة البرلمان هي (إقرار الميزانية المالية وبيان أوجه الصرف) وإذا كانت هذه البرلمانات قد إنهارت في اوروبا بعد الثورة الفرنسية، وذلك عندما تم إعدام الملك لويس السادس عشر، فإن الامر مختلف في بريطانيا حيث حصل التطور التدريجي ما أدى الى نزع الصلاحيات التشريعية من الملك وإعطائها الواحدة تلو الاخرى الى البرلمان، وإذا كانت السلطة التشريعية في بريطانيا تتألف من مجلسين : الاول هو مجلس اللوردات، والذي لم يكن منتخبا ! والثاني هو مجلس العموم الذي كان منتخبا من قبل الشعب، بعد ان كان الترشيح مقتصرا على مستأجري اراضي الملك والى الملاك منهم، الامر الذي يتعين فيه وجوب سكن الناخبين في المقاطعة بعد ان إستمر يفرض عليهم ذلك الشرط.. والواقع ان حكام الاقاليم كانوا يتدخلون في إجراء العمليات الانتخابية لكي تأتي النتائج لصالحهم.. وهكذا فقد أصبح البرلمان وهو الركن الاساس بالنسبة للديمقراطية الليبرالية، فهو الذي يتولى السلطة التشريعية ويراقب السلطة التنفيذية وقد اقتربت نشأته وتطوره بحسب حاجة البرجوازية لتولي السلطة مع منع الفئات الشعبية من منافستها.وهذه هي الكيفية التي نشأ عليها النظام التمثيلي في البرلمان ! إذ لا يتصور ان الناس جميعا هم الذين يتولون الحكم بأنفسهم لذا فان إختيار ممثليهم (ممن تؤهلهم حكمتهم وثقافتهم وخبرتهم ونزاهتهم) للانصراف الى ممارسة شؤون الحكم، وهذه النظرية تقوم على فكرة (الوكالة) حيث أصبح الاقتراع العام حقاً لكل مواطن بالغ سن الرشد يمارسه في إطار الاقتراع العام، كما تصبح الوكالة التي يمثلها النائب، وكالة إلزامية إذ يترتب على هذا الممثل (النائب) خضوعه باستمرار لارادة الناخبين، الذين أجلسوه على كرسي البرلمان، فالشعب هو صاحب السيادة وله الحق دائما في إجبار ممثليه على احترام ارادته ! كما ان هناك نظرية اخرى تقول بالسيادة الوطنية، وفحوى هذه النظرية ان هذه السيادة ليست ملكا للافراد وإنما ملكا للامة بصفتها الشخصية المعنوية وهذه السيادة تمارس بواسطة ممثلين ينتخبهم الشعب.. ووفقا لهذه النظرية فان الاقتراع وظيفة وليس حقا !! وفي هذه الحالة يمكن حصر الوظيفة بالمواطنين الذين يعتبرون الاكثر جدارة ووعيا، لكي يتم تخويلهم حق اختيار ممثلي الامة ويذهب هؤلاء الى أبعد من ذلك حيث يرون ان النائب يمارس مهامه بإسم الامة، وليس بإسم الناخبين وبالتالي فهو لا يخضع لرقابة الناخبين إ ذ انه لا يمثل المنطقة التي انتخب فيها وانما يمثل الامة جمعاء !!
وعلى ضوء هذه الوقائع فإن الديمقراطية تصبح طريقة لاختيار الحكام وليست طريقة لممارسة الحكم !! وهذا ما ذهب اليه (روبرت ماكيفر) في كتابه(تكوين الدولة) اذ نجده يصرح بان هذه ليست طريقة للحكم، سواء أكان حكم الاكثرية أم غيرها، ولكنها قبل كل شيء طريقة لاصطفاء الحكام ولتحديد اهداف حكمهم !!(تكوين الدولة، ص 247) وحيث ان التطور قد أدى الى نشوء الديمقراطية بمفهومها الليبرالي الذي جاء كنتيجة لتطور البنى الاقتصادية والاجتماعية، لذا كان لابد من وضع قواعد حقوقية تحدد كيفية ممارسة الحكم، وتحول دون العودة الى السلطة المطلقة، فإعتبرت الدساتير أهم ركائز الديمقراطية لانها الضمانة في عدم تحول الحكم الى حكم استبدادي تعسفي، وبإعتبار ان الدستور هو التنظيم الذي يقيد أعمال الحاكمين ويحدد اختصاصاتهم، وهكذا فقد ورد مبدأ في الثورة الفرنسية كما نص عليه في المادة 16 من إعلان حقوق الانسان يقول فيه (ان كل مجتمع لم يؤمن فيه ضمان حقوق الناس ولم يقرر الفصل بين السلطات، فهو ليس بدستور!!) ذلك ان الحكم الدستوري يعني توزيع مهام الحكم بين السلطات مع قيام حدود صريحة وواضحة في اختصاص كل منهما، منعا لقيام الدكتاتورية التي لا تحدها حدود، فارتبطت الديمقراطية بالدستور، بل قد أصبحت هذه الديمقراطية ركيزة أساسية من ركائزه.