لكل قوم موقفهم من مرحلة التنوير، وفي هذا الكتاب وجهة نظر انجليزية من أحداث ومعارك أوروبا ومساجلاتها في القرن الثامن عشر التي أحاطت بها (يُفضل الفرنسيون لفظ الأنوار)، تطرحها أوترام، الباحثة وأستاذة تاريخ أوروبا في جامعة كوك.
ومن البديهي أن يكون المبتدأ الاحاطة بالمفهوم الذي تضاربت الآراء في شأنه وانعقدت أنه يدور حول استعمال العقل، وتعريف كانط الشهير: " أن تكون عند الأنسان شجاعة أن يعرف هو جوهر التنوير". وتنظر أوترام الى هذا الأخير كسلسلة من المناقشات التي أخذت بالضرورة أشكالاً متباينة في خلفية ثقافية وقومية بعينها، والتنوير بحسبها رغبة في أن تكون الشؤون الانسانية مقودة بالعقل بدلاً من انصياعها للعقيدة والخرافة والنبوءة، أي الايمان بقوة العقل البشري في تغيير المجتمع وتحرير الفرد من قيود العادات والسلطات الاعتباطية. وقد عرَف كاسيرر التنوير كمرحلة تحدها حياة فيلسوفين هما ليبنتز (1646-1716) وكانط (1724-1804)، ورأى بيتر غاي في التنوير برنامجاً من العداء للدين والبحث عن الحرية والتقدم بالاستعمال النقدي للعقل من أجل تغيير علاقات الانسان بنفسه وبالمجتمع. وهو لم يقتصر على غرب أوروبا، اذ تعرفت مجتمعات كثيرة على وقعه، وعُدَّ منحنى القرن الثامن عشر منحنى التنوير. وبعد الحرب العالمية الثانية أُعيد النظر في المفهوم، فتقدم هوركهايمر وأدورنو (1947) بسؤالهما: "لماذا يغرق الانسان في نوع جديد من البربرية بدلاً من أن يدلف الى وضع انساني حقيقي؟"، حيث استبعدت القوة أي بحث عن المعنى، وبالتالي كانت رؤيتهما للتنوير شديدة السلبية. وبدوره حاول هابرماس إعادة تقويم التنوير على خلفية الحياة السياسية الألمانية الحديثة في مؤلفه" التحول البنيوي في المجال العام" (1962)، وارتأى أن التنوير لا يزال جديراً بأن يُتبع وأن يُستكمل، وهو ينطوي على تحرير الأفراد من التصنيفات الجامدة كي يكونوا قادرين على الفعل والسعي مع الآخرين نحو القيَم العالمية مثل الحرية والعدل والموضوعية. وأعاد ميشال فوكو أيضاً تعريفه استناداً الى مقولة كانط كنقطة بداية لفهم جديد للاستعمال النقدي للعقل كوسيلة للتغيير.
وفي الخلفية الاجتماعية للتنوير كانت هناك وسائط أنتجت فيها الأفكار واستقبلت وسوقت مثل الكتب والنشرات والصحف والمقاهي والصور والمنحوتات والمسرح والمعاهد والمنظمات مثل المحافل الماسونية والجمعيات والأكاديميات التعليمية ومكتبات الاستعارة والمعارض الفنية. وهذه كلها هيأت السبل لاطلاع الطبقات الاجتماعية المختلفة على الأفكار الجديدة، وأرست خبرة للقراءة من نوع آخر(في عزلة وانفراد ونهم بعد أن كانت شبه عادة إجتماعية لكتب محدودة)، صاحَب ذلك تغير في موقع الكُتاب والناشرين وامتلاكهم قوة تؤثر في الرأي العام. وتكوَن ما أطلق عليه هابرماس "المجال العام" الجديد للقرن الثامن عشر، اضافة طبعاً الى دخول أوروبا في طور "الثورة الصناعية" وما نجم عنها من تقسيم في العمل وتوسع في الانتاج شمل حتى البضائع الثقافية، وعبرت هذه عن التصادم العنيف بين الأفكار الجديدة والتقاليد القديمة، وقد أوضح المؤرخ فرانكو فنتوري أن الزيادة في تجارة الوسائط الثقافية، وخصوصاً الكتاب لسهولة نقله واختراقه حواجز اللغة والثقافة والبيئة الجغرافية بيسر، كانت من أكثر العوامل أهمية في بناء التنوير في أوروبا.
ربط بعضهم بين التنوير والمواقف المعادية للدين وثمرتها الثورة الفرنسية (1789) والاصلاح الديني اللوثري الذي رأى فيه هيجل "حرية الروح" وانتقد في الوقت نفسه التنوير لأنه فشل في انتاج أي منظومة من المعتقدات تأخذ مكان الايمان الديني، وهو كما كانط عدّه مشروعاً غير مكتمل للحرية العقلية والروحية. بيد أن الفكر الديني عرف قرناً من الابداع ، مثل فكرة التسامح التي تلخصها رسالة فريدريك الثاني ملك بروسيا- الذي لم يكن مؤمناً ولكنه أدرك الوظيفة الجتماعية للدين- في حزيران 1740: "الكل يجب أن يتعايش...هنا كل واحد عليه أن يختار طريقه للخلاص"، كما ظهرت الحركات الدينية القوية مثل: الميثودية الأنجليزية، اليقظة الكبرى في مستعمرات أميركا الشمالية، وظهور الطائفة الحسيدية بين اليهود البولنديين، والحركة الدينية التقوية في المقاطعات الألمانية، وقد أكدت كلها على الايمان الشخصي والعاطفي. وكان أيضاً قرناً للتجديد الديني والمناظرات، ومحاولة بناء إيمان مقبول من العقل ويستطيع أن يقنع من دون اللجوء الى القوة.
تبدى لبعض المؤرخين أن العنصر الثقافي الأهم في التنوير كان العلم وليس الدين، ولم يكن نشاطاً منفصلاً (ولم يمتلك كياناً خاصاً به) عن الأنشطة العقلية الأخرى، اذ انضوى تحت مسمى "الفلسفة الطبيعية" وموضوعها "النظر الى الطبيعة والى العالم كمخلوقات الله، وهكذا تكون قابلة لأن نفهمها على أنها تجسد قدرات الله وقوته"، ولكنها جهدت كي تنفصل، خصوصاً مع نيوتن، عن الغايات اللاهوتية، وقد أدت الأسئلة عن تاريخ الطبيعة دوراً في خلق فجوة بين التساؤل العلمي وعلم اللاهوت، واتجه الناس نحو المعرفة "العلمانية" حيث يمكن أن تكون معرفة الانسان بالكون غير معتمدة على معرفته بالخالق.
تلخص قصة روبنسون كروزو، تلك العلاقة التي ترسخت بين التنوير والآخر، أي بين الاستعمار والاخلاق واستغلال الطبيعة والتحكم فيها. وبدا التنوير وريثاً للاحتكاك الأوروبي الطويل بالأراضي الغريبة والذي سبق أن بدأ مع رحلة كولومبس عبر الأطلنطي عام 1492، كما كان وريثاً للنقاش عن طبيعة "الغريب" (وطبيعة أوروبا أيضاً وتحديد هويتها في مقابله) الذي أعقب الرحلة وفي إثر أكتشافات المحيط الهادي في القرن الثامن عشر، وفي نهاية هذا القرن، كما تقول الباحثة، أصبح "الغريب" بكل وضوح هو "الآخر"، الا أنه كان يقترن بشدة بأصول الأوروبيين الأولى (حال الطبيعة والفترة الكلاسيكية). فما التاريخ الا قصة تقدم متواصل للانسانية، وكانت هذه الجزر المكتشفة (التي أخذت كـ يوتيوبيات) مهمة كونها تبرهن على إمكانية أن يعيش الناس فعلاً طبقاً لأسسس التنوير.
[ الكتاب: التنوير
[ الكاتب: دوريندا اوترام