من خلال عملي مع ستة وزراء للخارجية الأميركية على مدى 20 عاما تكون عندي إحساس واضح تماما ما الذي يجعل أداء الوزير جيدا،
وحيث الأزمة الاقتصادية والمالية تغطي على السياسة الخارجية هذه الأيام فإن اختيار وزير خارجية مؤثر بات أمرا لازما اكثر من ذي قبل.
يجب أن أعترف بنوع من التحيز؛ ففي خلال الـ30 عاما الماضية أصبحت أعتقد أننا شهدنا وزيرين تابعين حقيقيين للخارجية هما جيمس بيكر الذي عملت معه وأعجب به، وهنري كيسنجر الذي سبقني تاريخيا، برغم كل عيوبهما ونواقصهما التي تفوق الآخرين، لكن كان لهما شخصيتهما المتميزة، وواجها ظروفا مختلفة، ونجحا وفشلا بطرق مختلفة؛ لكنهما كانا يجسدان أربع خصال مهمة ساعدتهما على النجاح.
الخصلة الأولى هي الشخصية الصحيحة. لقد كان فرويد حتميا عندما تحدث عن التشريح كمصير، لكن عندما يتعلق الأمر بمواصفات وزير الخارجية المؤثر لم يبتعد كثيرا عن الهدف، ذلك أن أكبر شخصية دبلوماسية أميركية لابد له أن يكون ممثلا ومعلما ومخططا ومخيفا وواثقا، ومعظم هذه الخصال طبيعية وفطرية وليست مكتسبة؛ وكذلك الحال بالنسبة للقدرة على إبراز حضور مادي وفكري قوي، وعندما يسير وزير الخارجية الأميركي في الغرفة سواء في الداخل أو الخارج يكون محاوره بحاجة الى أن يجلس على حافة مقعده، لا أن يجلس مستريحا في كرسيه متسائلا عن أفضل طريقة يستغل بها وزير الخارجية، وفي الواقع عليه أن يقلق من أن يكون هو من يتعرض للاستغلال.
لقد أثر كل من كيسنجر وبيكر في العرب والإسرائيليين بجلدهما وقوة احتمالهما خلال المفاوضات، وكلاهما كان ممثلا قادرا على الصراخ والتهديد بالتخلي عن العملية، وقد فعلها بيكر مرتين على الأقل مع الرئيس السوري حافظ الأسد ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير؛ وفعلها كيسنجر مرة واحدة على الأقل مع الأسد؛ ومع ذلك كان كل منهما قادرا أيضا على التطمين، وهكذا فعل كيسنجر ببراعة مرات لا حصر لها مع الإسرائيليين، وكما فعل بيكر مع الفلسطينيين؛ هذا الخليط من المحافظة على المحاور فاقدا للتوازن وفي الوقت نفسه مطمئنا أثبت عدم الغني عنه للدبلوماسية الناجحة.
الخصلة الثانية هي ثقة الرئيس؛ ذلك أن افتراض أن الرئيس الجديد سيعين وزيرا للخارجية قريبا منه ويحتل ثقته ليس صحيحا دائما. فمن بين وزراء الخارجية الستة الذين عملت معهم كان بيكر الوحيد الذي يرتبط بعلاقة وثيقة مع رئيسه؛ بيد أن هذه العلاقة غاية في الأهمية، فإنك لا تتوقع القيام بمهمة دبلوماسية خطيرة في الخارج أو في عالم واشنطن المحفوف بالمخاطر بدون أن يكون الرئيس مساندا لك، أو لا يسمح بجماعات المصالح المحلية بتقويضك أو يأذن لمستشاريه الآخرين بذلك.
لقد كانت علاقة بيكر بالرئيس جورج اتش بوش خاصة جدا، علاقة صديق حميم، حتى وإن بدا احيانا انها علاقة أخ أصغر. وكانت علاقة كيسنجر بنكسون اكثر تباعدا وتنافسا، لكن نكسون تعرف على مواهب كيسنجر، وأفسح له المجال للحركة، واستطاع كيسنجر لاسيما خلال فضيحة ووترجيت استغلال المساحة التي أتاحها الرئيس المشغول لتنفيذ واستغلال سلطة نكسون بشكل فعال جدا.
إن أصدقاء أميركا وخصومها يستغرقون نحو خمس دقائق لتخمين من يتحدث حقيقة باسم البيت الأبيض ومن لا يتحدث؛ فإذا كان وزير الخارجية يندرج تحت الفئة الثانية فليس لديه فرصة صياغة دبلوماسية مؤثرة حول قضية كبيرة، والأرجح أن يتم التعامل معهم كجزء من منظومة أو يستخف بهم.
الخصلة الثالثة هي امتلاك عقلية المفاوض. إن المراهقين يتحدثون في الهاتف، والقندس يبني السدود، ووزراء الخارجية يعالجون الأزمات ويحلون المشاكل، وهذا يعني امتلاك رؤية ذكية وحازمة للعالم، ونظرة لكيفية المزاوجة بين الغايات والوسائل الأميركية، ومعرفة بكيفية عمل ذلك؛ وليس هناك مجال للأيديولوجيات هنا، أو العقول التي تفتقد للقدرة على الجمع بين نعم ولا العلاقات الدولية بكل التناقضات التي تفرض نفسها على الدبلوماسية.
عقلية المفاوض بمعنى القدرة الفطرية على معرفة مكان الصفقة وإخراجها أمر حاسم، هذه العقلية غير مكتسبة؛ لقد كان بيكر محاميا بالتدريب؛ وكيسنجر أكاديمي، وكلاهما كانا مفاوضين بارعين نجحا بأكثر مما فشلا، ولقد كان نجاح كيسنجر في التوصل إلى ثلاث اتفاقات فض اشتباك في 18 شهرا بين إسرائيل ومصر وسوريا عملا مؤثرا فعلا، وكان نجاح بيكر في جمع شامير والأسد والفلسطينيين على طاولة المفاوضات دليلا كلاسيكيا على كيفية عمل شيء من لا شيء.
الخصلة الرابعة هي المراوغة والحزم، وهذه النقطة الأخيرة قد لا تكون سليمة من الناحية السياسية ولكن وزير الخارجية الفعال هو متلاعب، والخداع يكون مطلوبا أحيانا، ووزير الخارجية يناور باستمرار، ويحاول الوصول إلى ما هو ضروري كي ينجح، وكيف يستخدم المحفزات، والضغط ولي الذراع، وإذا لزم الأمر الكذب لمعالجة أزمة أو التوصل إلى صفقة.
لم يكن بيكر وكيسنجر عاطفيين، وحتى يتوصلا إلى صفقاتهما الشرق أوسطية كانا يستخفان بالإسرائيليين أمام العرب وبالعرب أمام الإسرائيليين، وكانا يهددان عندما يضطران، ويتنازلان عندما يحتاجان، دون أن يفقدا النظرة إلى الهدف أو باب خلفي للخروج؛ أما وزراء الخارجية اللطفاء عادة يكونون وزراء خارجية غير فعالين.
بالطبع حتى أبرز وزير للخارجية لا يمكن أن يضمن سياسة خارجية ناجحة، وشخصية الرئيس، وغيرها من أولويات السياسة، والحظ، والتدفق غير المحكوم للأحداث أكثر أهمية. بيد أن وزير الخارجية المؤثر الذي يستطيع أن يتعامل مع الأزمات ويستغلها كفرص مسألة مهمة.
وسواء اختار الرئيس المنتخب باراك اوباما في النهاية هيلاري كلينتون او مرشحا اخر موهوبا ام لا من الضروري أن يكون الشخص المختار يمتلك العديد من الخصال التي جعلت كيسنجر وبيكر على هذا المستوى من النجاح، وأن يكون هو الشخص الذي تحتاجه اميركا الآن ليكون وزير الخارجية السابع والستين.
آرون ديفيد ميللر
عمل مستشارا سابقا لشئون الشرق الأوسط مع ستة وزراء خارجية أميركيين