بعد الترويج للإيديولوجيات الداعية لنهاية التاريخ وصراع الحضارات التي أطلقها كل من فرنسيس فوكوياما وصموئيل هنتغتون، تُظهر الأحداث الاخيرة التي وقعت في جورجيا عن نتيجة مفادها أن المُحرك المركزي للدول العظمى يكمن في تنافسها الاقتصادي الذي قد يقودها أحياناً الى إشعال الحروب وتغيير المعالم الجيو - سياسية للأمم وذلك بغية الإستيلاء على ثرواتها.
وعليه فإن التحولات العالمية لا تنتجها سوى الدوافع الاقتصادية وما التوظيف السياسي أو الديني لها إلاَّ إضفاءً لمشروعية تفتقدها، لهذا تتجه الى تغليب الطابع الذاتي على صراعها في سبيل إيجاد المبررات لطموحاتها المادية الآخذة في الإتساع مع توسع خارطتها والنمو التراكمي لإقتصادها.
من هنا فإن حصيلة ما حدث في آسيا الوسطى يكشف عن مؤشرين أساسيين: الاول، انتقال التنافس على النفط وخطوطه وامداداته بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة من مرحلة التجاذب الخفي الى مرحلة الصراع العلني؛ الثاني، أهمية منطقة قزوين الغنية بالنفط بالنسبة لموسكو المصممة على عدم التخلي عن سيطرتها على هذه البقعة الحيوية اقتصادياً وسياسياً. والأهمية الاقتصادية لخلفيات الهجوم العسكري الروسي على جورجيا في إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا مع ما يرافقها من دعم أمريكي لحاكم جورجيا بهدف تعزيز التواجد العسكري لواشنطن، تتلخص في تعيين الطرف الأقوى في معادلة الإشراف على حماية وإدارة عمليات ضخ الطاقة في خطوط الأنابيب. أما الاهمية السياسية فلا يمكن إستشراف مؤثراتها إلاّ بعد تحديد الفريق المنتصر في لعبة موازين الدول الكبرى والتي إذا تحققت في وقت قريب لصالح أحد الطرفين ستؤدي الى متغيرات استراتيجية.
إن الصراع على الانابيب النفط والغاز وفقاً لما أوردته صحيفة 'الوسط' البحرانية في عددها الصادر بتاريخ 4 أيلول (سبتمبر) 2008 بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واكتشاف النفط بكميات هائلة في بحر قزوين؛ والاكتشاف بدأ قبل تفكك المنظومة الشيوعية، ولكنه تعزز دولياً بعد ظهور احتياطات تجارية مهمة في فضاء من الفوضى الأمنية أخذ يعصف بالدول الواقعة على شواطئ بحر قزوين. وفي تلك الفترة الانتقالية من الاشتراكية الى الرأسمالية اندلعت سلسلة من الحروب الأهلية والاقليمية وشكلت هذه الحروب الغطاء الاثني المطلوب لإقصاء الأنظار عن المصالح والثروات النفطية المدفونة. كان النفط إذن السبب في توتير الاوضاع الامنية لذلك عملت الشركات الدولية على استخدامه للضغط على الدول التي خرجت حديثاً من تحت مظلة الاتحاد السوفييتي، والمواجهات لم تقتصر على مواقع الانتاج بل امتدت الى خارج حدود قزوين لترسيم خطوط النقل والمناطق التي ستمر بها الأنابيب الى موانئ الشحن ومصافي التكرير.
لقد أطلق الهجوم العسكري الروسي على جورجيا رسائل قوية الى الغرب، يمكن إيجازها بأن موسكو البوتينية مصممة على إستعادة دورها الاقتصادي عبر سيطرتها على أنابيب النفط الممتدة في هذه المنطقة الحيوية في العالم، وأهمية جورجيا لا تعود الى إحتوائها على أثار النفط والغاز الطفيف بل الى أنابيب النفط التي تمر فوق أراضيها والتي بنتها شركات البترول الاوروبية والأمريكية الكبرى لنقل البترول والغاز الى أسواق الغرب.
الى ذلك تتضح من معالم الصحوة الروسية التي بدأت مع الرئيس السابق فلاديمير بوتين والتي دشنها بخطوات متعددة أهمها توقيع صفقة خط أنابيب نفط البلقان عام 2007 بين روسيا واليونان وبلغاريا، حدة المخاوف الأمريكية من هيمنة موسكو على نقل جانب كبير من نفط بحر قزوين، في الوقت الذي بدأ في ربيع 2005 تشغيل أنبوب باكو- تبليسي- جيهان والذي تدعمه الولايات المتحدة وتعتبره وسيلة هامة لإنهاء السيطرة الروسية الطويلة على إمدادات النفط القادم من بحر قزوين، بحيث يتجاوز طول هذا الانبوب الـ 1700 كيلومتر ويعتبر الثاني في العالم من حيث الطول، الأمر الذي ينطبق على خط نقل الغاز الطبيعي المعروف باسم باكو- تبليسي ارضروم، والذي ينقل الغاز الاذربيجاني عبر جورجيا الى البحر المتوسط في شرق تركيا أيضاً. إن تداعيات حرب جورجيا أكدت على أن روسيا دعمت موقعها في القوقاز، واستعادت مكانتها المتفوقة وقدراتها على التحكم بصادرات الطاقة الى أوروبا، إزاء ذلك جاءت ردة الفعل الاوروبية بالدعوة الى البحث عن مصادر أخرى للغاز والنفط وتخفيف الاعتماد على الطاقة التي ترد من روسيا.
غير أن الصراع الأمريكي - الروسي على النفط يتخطى آسيا الوسطى وينذر بإمكانية اشتعال حروب النفط في مناطق أخرى، ولكن هذه المرة في القطب الشمالي؛ فقد نشرت الولايات المتحدة يوم 24 تموز (يوليو) 2008 معلومات عن إمكانية احتدام التنافس على نفط القطب الشمالي الذي تحتوي بطونه على 90 مليار برميل من النفط، وهي كمية كافية لتغطية الطلب الأمريكي على النفط خلال 12 عاماً. وفي هذا السياق وصف الخبير الروسي أناتولي دميترييفسكي رئيس معهد قضايا النفط والغاز هذه المعلومات بأنها تقديرات واقعية. لكن المفارقة المهمة هي أن روسيا نصبت علمها الوطني في قاع المحيط المتجمد الشمالي عام 2007 وهو ما اعتبره البعض دعاوى ضمنية تعطيها أحقية الاستيلاء على نفط القطب الشمالي، الأمر الذي دفع الدول الاخرى الطامحة الى ثروات القطب الشمالي من بينها الولايات المتحدة وكندا والنرويج لإرسال وفودها البحثية الى هذه المنطقة.
ختاماً إن حروب النفط بين واشنطن وموسكو هي التي ستمهد الطريق أمام الحرب الباردة الجديدة المختلفة عن سابقتها، فالاولى كانت عبارة عن صراع بين نظامين مختلفين يحاول فيه كل نظام تعميم ونشر إيديولوجيته ضمن مناطق نفوذه، أما الثانية فهي تنافس يدور برمته حول موارد الطاقة وكيفية استغلالها بشكل كامل حتى لو وصل الأمر الى إشعال الفتن الأثنية والمذهبية. وبالتالي فالخطاب السياسي الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة وروسيا حول الحرية وحقوق الانسان، عبارة عن فقاعة فارغة لا تهدف إلاّ لتحويل مسار الرأي العام العالمي عن الحقيقة القائلة: بأن الإستيلاء على النفط العالمي هو غاية الدول الكبرى حتى لو وصلت حدود الصراع الى إثارة الاثنيات والأديان وتذرير القوميات.
ريتا فرج