يا للمرارة. ها هو لبنان مرة اخرى يكاد يتهاوى مثل تحفة من الخزف المدمر او مثل زجاج محطم يستحيل جمع شظاياه الجارحة والمجروحة.
الآن يكفي ان يتأمل المرء في شريط الازمة ومحطاتها المتلاحقة (ونحن في بداية طريق الجنون طبعا)
لكي يدرك اننا لا نواجه منذ ستة اسابيع، عقدة او عقد تشكيل الحكومة بعدما كنا قد واجهنا عقدة الفراغ الرئاسي لمدة ستة اشهر، وقبل ذلك عقدة تعطيل "الحكومة البتراء" وتعطيل مجلس النواب. بل نواجه في العمق ما هو ادهى من ذلك بكثير:
اننا نواجه ازمة مصيرية وكيانية تهدد مستقبل لبنان الذي لم يعد بلدا واحدا بل اصبح لبنانين او ربما لبنانات، والدليل الحسي على هذا يكمن في المنطلقات الجذرية التي تغذي الانقسام العميق الذي يعصف في البلاد طوائف ومذاهب وثقافات واقتناعات وطموحات ورؤى.
❑❑❑
ليس القتال الآن على الحكومة وحقائبها الوزارية وحصص الجبنة فيها، ونحن عشية انتخابات نيابية قد تتحول حربا اهلية شاملة وسط الفلتان الامني المتفاقم هنا وهناك وغابات السلاح، بل القتال على موازين القوى التي يفترض ان تنتج من هذه الانتخابات والتي ستقرر سياسة البلاد واصطفافها وموقعها وسط التقاطعات الاقليمية والدولية.
وفي هذا السياق من الملائم ان يتذكر الجميع في هذا البلد اننا اشبه بشاطئ رملي يضربه نوعان من فقش الموج:
❑ أولا: موج الضغائن والاحقاد التي تطلقها الفتنة المذهبية المتصاعدة في كل المنطقة بين السنة والشيعة، انطلاقا من العراق، ورغم كل المساعي المبذولة على مستويات عليا في الرياض وطهران لمنع هذا الصراع البغيض.
❑ ثانيا: موج الصراع الاستراتيجي على النفوذ المحوري في المنطقة، وهو الذي اتخذ عناوينه الصريحة منذ عام ونيف عندما صنفت واشنطن لبنان "خط اعتدال في وجه التطرف الايراني – السوري"، فردت طهران بالقول "يجب إلحاق الهزيمة باميركا في لبنان"، وهكذا، ويا للغرابة، صار القتال ضد كل من لا يحالف ايران وسوريا من اللبنانيين، قتالا ضد اميركا واسرائيل. ومعالم الصورة المؤلمة هنا واضحة للجميع!
❑❑❑
وسط هذا التقاطع المدمر، لا يمكن النظر الى الازمة اللبنانية المديدة على انها ازمة صراع سياسي داخلي، بل هي ازمة مصير ومستقبل. ولأن لبنان بلد تعددي لا يتسع في صراعاته المسلحة وحروبه الاهلية لمنتصرين بل لمنهزمين، حيث المنتصر مهزوم والمهزوم مهزوم بالمعنى الوطني، فإن وتيرة الصراع الذي ادخل السلاح على جبهات الداخل لا يمكن ان تقود الا الى تمزق لبنان وانهياره.
ويبدو ان المستوى السياسي في البلاد في جزء اساسي منه على الاقل، كي لا نقع في مطبات التعميم، مصاب بالهستيريا الانتخابية. بدليل ان الازمة تستنسخ الازمة بينما البلاد الرازحة تحت دين عام مخيف تنزف هجرة وفرصا، والمقصود بالفرص هو تضييع فرصة انفجار الثروات في المنطقة العربية التي يمكن لبنان ان يستفيد منها ويحقق ازدهارا ونموا يساعدانه على تسديد ديونه وتوفير بحبوحة لمواطنيه عندما يقرر الخروج فعليا من الحلقة المفرغة للأزمة القاتلة!
❑❑❑
ولكن القتال ليس على الحكومة والحقائب بل على اي لبنان نريد. حتى وإن شُكلت الحكومة الآن، فإن القتال سينتقل غدا الى داخلها ولأتفه الاسباب. فنحن لسنا مختلفين على الابيض والاسود فحسب، بل على من يلوي ذراع الآخر حتى ولو كان الامر على مستوى النكاية الشخصية والهامشية. ومن لا يصدق عليه ان يتذكر شريط المواقف والشروط والاسماء والحقائب والعراقيل في الاسابيع والايام الماضية وقد وصل الامر الى حدود تصنيف المرشحين لدخول الحكومة بين الكحل والعمى. ونحن لا نريد ان نصدق اننا وصلنا فعلا الى هنا. فالبركة والخير في الناس جميعا، ومع قليل من الاستيعاب المتبادل وسعة الصدر بين "الابطال المتقاتلين" يمكن الجميع ان يتجاوزوا قواعد "الدنيا وجوه وأعتاب"، على الاقل لان كل الاعتاب تتشابه في لحظة ما، وكل الوجوه تتساوى في لحظة ما.
ولأن جوهر القتال سيهزم لبنان والوطن في النهاية ما لم تحصل معجزات الوعي والعقل، وهذا امر مستبعد كليا، فان ما يطلبه اللبنانيون من هؤلاء السياسيين مثلا ليس العدالة والمساواة في المهل التي تتطلبها معالجة التشكيلة الحكومية، اي ان تأخذ الاكثرية نصف ما اخذته المعارضة وقد وصل الى ستة اسابيع، ولا الانتباه الى خطورة اندلاع النار تكرارا في اذيال طرابلس، ولا تذكُّر ان هناك ما يقرب من مليون سائح عندنا جاؤوا الى لبنان لانهم يحبونه اكثر من
اللبنانيين.
ما يطلبه اللبنانيون من السياسيين الآن امر واحد:
ان يتوقفوا عن الكذب واستهبال الناس، وان يوقفوا وضع الملح في جروح المواطنين عندما يتحدثون بملء اشداقهم عن "حكومة الوحدة الوطنية"، وكلنا يعرف انها ستكون حكومة تمريغ ما تبقى من الوحدة الوطنية في وحول الجنون
والعار!