في الحديث السابق كان موضوع المناقشة هو التطورات الأخيرة فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، والتي تمثلت في التهديدات الأمريكية والإسرائيلية بتنفيذ ضربة عسكرية بحق إيران. وفي هذا السياق كان السؤال المركزي:
هل فعلا بدأ العد التنازلي لحرب أخرى بالمنطقة. وفي هذا الإتجاه ركزنا على جملة الأحداث التي أخذت مكانها خلال الأسابيع المنصرمة، وبشكل خاص المناورات العسكرية لسلاح الطيران الإسرائيلي. كما تناولنا بعض التصريحات الإسرائيلية والأمريكية، والموقف الروسي، ومواقف أخرى، وبعض من تعليقات كبريات الصحف العالمية، وردود الفعل الرسمية الإيرانية تجاه هذه التطورات.
وظل السؤال يحاصرنا ويلح في طلب الجواب: هل نحن أمام تصادم بالسلاح في غضون الأسابيع القادمة. وإذا كان الجواب بنعم فما هو هدف الحرب؟ وهل تملك الأطراف الضالعة فيها تحقيق تلك الأهداف.
في كل الأحوال، ونظريا على الأقل، فإن الحروب تشن في العادة لتحقيق أهداف يستحيل إنجازها دون اللجوء إلى السلاح، بمعنى أدق أن الحرب هي شكل آخر من أشكال المفاوضات من أجل تحقيق أهداف معينة وواضحة. وأن الغاية من الحرب تنتفي حين يقرر أحد الأطراف التنازل عن موقفه. في هذه الحالة فإن الخيارات المطروحة هي أن تتراجع إيران عن إصرارها على المضي في برنامجها النووي، مقابل محفزات يقدمها "المجتمع الدولي"، وهو خيار موضوع فعلا على الطاولة، أو تقبل الإدارة الأمريكية بتسوية يتمكن الإيرانيون من خلالها من مواصلة طموحاتهم النووية، مع ضمان اقتصار استخدام المفاعلات للأغراض السلمية. وبالنسبة للكيان الصهيوني، فلن يتصرف خارج إطار السياسة المعلنة للإدارة الأمريكية، وسوف يلتزم بأي تسوية يقبل بها الأمريكيون.
وإذا ما استنفذت محاولات الوصول إلى تسوية يقبل بها مختلف الغرماء، وأصبح سيناريو التوصل إلى حل سلمي مغيبا، فإن موضوع الحرب سوف يطرح جديا وبحدة. لكن مناقشة خيار الحرب شيء، وخوض الحرب شيء آخر. فالمناقشة تعني أن هذا الخيار، أصبح فرضية مفتوحة وقابلة للنقاش والأخذ والرد، لكن الأخذ بهذه الفرضية لن يتم إلا بعد توفر مختلف المعطيات التي تدعم الإحتكام لهذا الخيار، وفي المقدمة من ذلك ضمان تحقيق الهدف الرئيس من الحرب. وفي هذا السياق، ليس من المهم النجاح في تنفيذ الضربة الأولى، دون الأخذ بعين الإعتبار، قدرة الطرف المعتدى عليه على استيعاب الضربة، وأكثر من ذلك التحسب لردود الفعل، أو الأفعال الإيرانية بعد تلقي الضربة. والأهم أن يهتم مختلف الفرقاء ليس فقط بأوراق الضغط التي يمتلكونها، ولكن بتلك الأوراق التي يمتلكها غريمهم، أو غرماؤهم، وكيفية استثمار تلك الأوراق.
في هذا الصدد، أشرنا إلى بعض الأوراق الرئيسية التي تمتلكها إيران، تتمثل الأولى في قوة حضورها الميداني والسياسي والعسكري والعقدي بالعراق المحتل. وأشرنا إلى الشراكة والتنسيق بين الإيرانيين والأمريكيين في بلاد النهرين. وأن الحرب الأمريكية على إيران تعني انفضاض تلك الشراكة، بما يعني فشل المشروع الأمريكي في العراق برمته, وتناولنا ذلك بشيء من التفصيل في عدد من الأحاديث التي نشرت في مناسبات مختلفة. أما الورقة الثانية، فهي ورقة حزب الله في لبنان، وقد أثبتت حضورها بقوة في عدة مناسبات، كان آخرها، قدرة الحزب على المناورة، تقدما وانكفاء في حرب تموز/ يوليو عام 2006م.
والواقع أن هناك أوراقا أخرى بحوزة القيادة الإيرانية، يعرفها الأمريكيون أكثر من غيرهم، في مقدمتها الأوضاع المتردية للوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، حيث تقوم حركة طالبان بالإستيلاء يوميا على مناطق جديدة. وسيكون الوضع قاتما أكثر حين تتحول إيران، وحلفائها في أفغانستان، من خندق المتحالفين مع الأمريكيين إلى خندق المناوئين لسياساتهم في أفغانستان. وتبرز أهمية ذلك إذا علمنا أن الهجوم الأمريكي البري على أفغانستان في الأيام الأولى للحرب، قد تم بدعم من الحكومة الإيرانية وحلفائها في مزار شريف ومناطق افغانية أخرى. ولم تكن تلك التحالفات خالية من النكهة الطائفية، التي طبعت سياسات الإدارة الأمريكية بالعراق لاحقا، والتي اعتمدت صيغة محاصصات الطوائف والإثنيات. وبالتأكيد فإن استثمار هذه الورقة من قبل الإيرانيين سيضاعف من صعوبة أوضاع الأمريكيين في أفغانستان، ويعجل بهزيمتهم فيها.
إضافة إلى ذلك، فإن العالم بأسره يشهد الآن أزمة ارتفاع سعر الطاقة. وسواء كانت الأزمة طبيعية أو مفتعلة، فإنها تشكل عبئا ثقيلا على الإقتصاد العالمي بأسره. وإذا ما قررت الإدارة الأمريكية أو "إسرائيل" توجيه ضربة لإيران، فإن ذلك سيؤدي إلى مضاعفة حالة عدم الإستقرار التي تنوء بها منطقة الخليج منذ ما يقرب من الثلاثة عقود. وليس من المستبعد أن تؤثر على تدفقات النفط بالأسواق العالمية، وربما شكلت عائقا أمام حرية العبور للناقلات الكبرى للطاقة.
ومع الإتفاق، بعدم وجود ما يضاهي قوة النيران الأمريكية، في عموم الكرة الأرضية، فإن ذلك لا ينبغي أن يؤخذ بشكل مطلق. فنحن هنا لسنا إزاء حرب عالمية. والقوى الصغرى لا تستطيع في الغالب حسم الحرب عسكريا لصالحها، ولكن مقاومتها ورود أفعالها قد تكفلت فيما مضى، وربما تتكفل بالمستقبل بإلحاق الهزائم السياسية. وإذا ما جرت المعارك بالقرب من مضيق هزمز، المضيق الدولي، الذي بدون حرية الحركة فيه يتعطل وصول عصب الحياة، في عصرنا، إلى الأسواق العالمية، فإنها لن تكون سهلة أبدا.
فلدى البحرية الإيرانية، إلى جانب الأسلحة التقليدية، مجموعة من الغواصات الروسية الحديثة ذات الحجوم الصغيرة، القادرة على المناورة والحركة، والتي حصلت عليها من كوريا الشمالية. وتسمح لها هذه الغواصات باستخدام مياه الخليج العربي وخليج عمان، وتقلل من مخاطر تعرضها لهجوم الطائرات والسفن، ويمكنها صغر حجمها من الإختباء في المياه الضحلة. كما تتمكن تلك الغواصات من إطلاق الطوربيدات أو زرع الألغام قرب الموانئ أو في طريق الناقلات البطيئة. وبحوزة البحرية الإيرانية أيضا عددا كبيرا من القوارب الدورية السريعة، والصواريخ المضادة للسفن من طراز سيكلورم سي- أس- أس 2 الصينية الصنع.
وإذا ما حدثت الحرب فليس من السهل التنبؤ بنهايتها، وربما يدفع استمرارها إلى التهديد الحقيقي لشحنات النفط، خاصة وأن مراكز الدراسات الإستراتيجية تؤكد امتلاك إيران للصواريخ المضادة للسفن، بل وقدرتها على التعرض لحاملات الطائرات، مستثمرة طول خطوط الملاحة في الخليج في شن ضربات بحرية أو جوية من مواقع على طول الخليج العربي وخليج عمان. هذا عدا الأنواع الأخرى من الأسلحة التقليدية، وغير التقليدية التي تمتلكها إيران، وبضمنها الأسلحة البالستية بعيدة المدى من نوع سكود، والتي يصل مداها إلى الكيان الصهيوني، والمزودة برؤوس قادرة على حمل أسلحة كيماوية وبيولوجية.
وقد جاءت تصريحات رئيس هيئة الأركان الأمريكية، الأميرال البحري مايكل مولين بعد زيارته الأخيرة للأراضي المحتلة ولقائه بمسؤولين إسرائيليين، أن أي ضربة جوية إسرائيلية ضد إيران ستزعزع استقرار الشرق الأوسط بدرجة أكبر، وتثقل كاهل القوات الأمريكية المنهكة في المنطقة، لتعكس المخاوف الأمريكية من خيار الحرب. وفي لقاء آخر مع صحيفة الواشنطن بوست أكد مولين: "أن الأوضاع الحالية في أفغانستان تتطلب مزيدا من الجهد من القوات الأمريكية لكبح جماح العنف المتزايد جراء التمرد هناك". لكنه أوضح أن البنتاجون الآن في وضع صعب لا يسمح له بإرسال قوات كافية إلى أفغانستان، نظرا لانشغاله بالحرب في العراق.
وأكد مولين أن حركة طالبان والقوى المتطرفة في أفغانستان أضحت "مشكلة شديدة التعقيد" وأن العنف في أفغانستان تضاعف بصورة كبيرة في الأسابيع الأخيرة، وأن شهر حزيران/ يونيو الماضي قد شهد أكبر معدل للقتلى وسط القوات الأمريكية منذ بدء الحرب في 2001م.
ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن الحرب أصبحت محتمة ضد إيران؟ أم أن هناك سيناريوهات أخرى بديلة ستلجأ لها الإدارتان الأمريكية والإسرائيلية للقضاء على الطموحات النووية الإيرانية؟ وما هي الأوراق التي بحوزتهم، في حالة اللجوء لخيار المغامرة بشن الحرب؟ هذه الأسئلة، ومحاور أخرى ذات علاقة ستكون موضوع مناقشتنا بالحديث القادم بإذن الله.