إنها معادلة صعبة واشتباهٌ لا حل له. ويعني الاشتباه توتر الحقيقة بين طرفين كلاهما صحيح، واختيارين تاريخيين، وواقعين تجريبيين، لكل منهما مميزاته وعيوبه. ولا يوجد في كلتا الحالتين أي صدق نظري عن طريق الاستقراء من الواقع، ولا عن طريق الاستنباط استنتاجاً من الذهن فرضاً من طبيعة العقل.
فقد قامت دولة الفرد، وحافظت على وحدة الدولة بأي ثمن حتى ولو كان قهر الحريات العامة للمواطنين أو الحقوق الذاتية للقوميات والطوائف، ووصف هذا النظام بالديكتاتورية، والفرد الذي يمثله بالديكتاتور. يُعرّض نفسه للثورات الداخلية والانتفاضات الشعبية أو لمحاولات الاغتيال السياسي أو للغزو الخارجي من دولة فرد أقوى بدعوى الدفاع عن الديمقراطية وتأمين المنطقة من أسلحة الدمار الشامل. فلا قوة إلا وهناك قوة أكبر منها. ولا فرد إلا وهناك فرد أعْتى منه. وتصبح العلاقات بين الدول صراعاً بين أفراد.
والأمثلة على ذلك كثيرة من العراق قبل الغزو الأميركي له، وإبان الحكم العسكري الذي ساد قبل الإصلاحات الأخيرة والحوارات الوطنية في السودان، والصومال بعد الاستقلال أثناء حكم سياد بري. وهو النموذج الذي انهارت بعض تجاربه وانتهت إلى التمزق والشقاق والحروب الداخلية كما حدث في الصومال والسودان أو إلى الغزو الخارجي كما حدث في العراق. وهو مازال سائداً في بعض الأقطار العربية لأسباب تاريخية وجغرافية وثقافية. فقد تميزت مصر عبر عصورها بهذا النموذج للدولة الفرد منذ أيام الفراعنة، (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ، وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبصِرُونَ)، "أحمس" قاهر الهكسوس، وصلاح الدين قاهر الصليبيين، ومحمد علي باني مصر الحديثة، وعبدالناصر مفجِّر الثورة العربية. وقد فرض هذا النظامَ الفرديَّ الوضعُ الجغرافي وطبيعة المجتمعات المركزية النهْرية، وحاجتها إلى سلطة مركزية لتوزيع مياه النيل، وتنظيم الدورة الزراعية. كما فرضت حدودُها المفتوحة من الجهات الأربع تكوين جيش قوي للدفاع. شعبها متجانس مهما اختلفت طبقاته الاجتماعية وطوائفه. لذلك كان أول عمل قام به الملك "مينا" توحيد القُطرين، الشمال والجنوب. ونأتْ مصر عبر تاريخها الطويل عن الانقسامات والحروب الأهلية.
نجح العرب في درء الخطر الخارجي، الاستعمار، أكثر مما نجحوا في بناء الدولة المدنية الحديثة التي يتساوى فيها المواطنون الأحرار.
والمغرب العربي، المغرب الأقصى مثل مصر. وما قامت به السلطة المركزية في مصر قام به الملك في المغرب. فهو رمز لوحدة الأراضي الوطنية في الشمال والجنوب بين الريف والصحراء، وبين الطوائف، العرب والبربر. انفصال الصحراء عنه كما كان يريد الاستعمار الأسباني ضد طبائع الأشياء، وكذلك محاولات البوليساريو الآن مما تأباه طبيعة وحدة الوطن المغربي الذي يرمز له التاج. فتاريخ المغرب هو تاريخ ملوك المغرب ورموزها الوطنية مثل محمد الخامس. وحدث نفس الشيء بالنسبة لليمن وحكم الأئمة. فالإمامة في اليمن هي تاريخ اليمن. حافظت على وحدته بفضل الأئمة الزيدية. وقام الملوك الهاشميون بنفس الشيء في الأردن جمعاً بين الملك والإمامة. وقد تجمع نظم أخرى بين النظام العسكري والنظام الطائفي تحت شعار النظام الجمهوري.
وقد تستمد الدولة قوتها من القوات المسلحة، والفرد من رياسته للجيش الذي أصبح رمزاً لوحدة البلاد، وينقذها من الفوضى والشقاق والحروب الأهلية والفتن ومحاولات الانفصال كما حدث أحياناً في الثورات العربية الحديثة، في الجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا. فالرئيس القوي يستمد سلطته من الجيش وليس من الشعب. والجيش مظهر من مظاهر الأمن والاستقرار في البلاد مثل الشرطة وباقي أجهزة الأمن. الجيش في الجزائر رمز للوحدة الوطنية في البلاد بين العرب والبربر خوفاً من النزاع الطائفي بين الإسلاميين والعلمانيين، والصراع الأيديولوجي الذي يفرِّق البلاد بين أصوليين وحداثيين. وقد تقوم قوة رأس المال بالإضافة إلى العشيرة بدور توحيد الأوطان كما يحدث في أقطار عربية أخرى. فالثروة والسلطة أهم عنصرين موحِّدين للدول. وقد تضاف إليهما إمارة المؤمنين، وما تبقى من نظام الخلافة القديم.
وفي المقابل تنشأ محاولات من أجل التعددية السياسية والطائفية والعرقية والمذهبية مثل النموذج اللبناني. يقوم على التوافق والتراضي وتوزيع المناصب. ويستمر هذا النموذج إلى أن يحدث الشقاق بسبب الاختلاف الجذري بين عدة مشاريع خارجية وصراعات بين قوى إقليمية. ولا يدرأ هذا الشقاق إلا العودة إلى نموذج التوافق الذي لا يقوم على أساس المواطَنة بل على التوازن بين الطوائف والمذاهب كما حدث في "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب الأهلية، و"اتفاق الدوحة" الذي أنهى خطر النزاع المسلح بين "الموالاة" و"المعارضة".
كيف يمكن إذن تناول هذا الاشتباه في الفكر والواقع السياسي؟ أيهما أوْلى دولة الفرد على رغم ما فيها من قهر وتسلط في سبيل الحفاظ على وحدة الأوطان، أم الحفاظ على الحريات العامة، الفردية والجماعية، على رغم ما قد يهدد ذلك من تفكك الأوطان؟
إن الخطر الذي يهدد الوطن العربي كله بل والعالم الإسلامي المحيط هو خطر التفتيت والتجزئة وتفكك الأوطان إلى فسيفساء عرقي طائفي يسهل ابتلاعه داخل التكتلات الكبرى، الإقليمية أو الدولية، مشاريع "الشرق الأوسط الكبير" أو المتوسطية، وإسرائيل جزء منها، أو العولمة بقيادة الإمبراطورية الجديدة، الولايات المتحدة الأميركية. ومن ثم فإن إعطاء الأولوية لوحدة الأوطان على حرية المواطن والجماعات يدرأ هذا الخطر العاجل، التفكيك من الداخل أو الغزو من الخارج. وقد نجح العرب في تجاربهم الحديثة في درء الخطر الخارجي، الاستعمار، أكثر مما نجحوا في بناء الدولة المدنية الحديثة التي يتساوى فيها المواطنون الأحرار. وهو اختيار صعب، ولكنه ضروري، فالوطن باق، والأفراد زائلون. التاريخ مستمر والأفراد ميتون حتى الأنبياء (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)، ووحدهم الذين يدافعون عن حرية الوطن وحرية المواطن هم الأحياء. فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وقضية الحريات أصعب وأعمق جذوراً في التاريخ من قضية الاستعمار الطارئ. وتظل مطروحة سواء توحدت الأوطان أو تجزأت.
والسؤال النظري هو: ألا يمكن الجمع بين الاثنتين، وحدة الوطن وحرية المواطن؟ لماذا التعارض بين شيئين كلاهما صحيح وضروري؟ والعالم كله الآن يبحث عن طريق ثالث كرد فعل على حالة الاستقطاب السابقة بين الشيوعية والرأسمالية، بين النظام الجماعي والنظام الفردي، بين الشرق والغرب، بين الجنوب والشمال. فهناك الليبرالية الجديدة، والاشتراكية الجديدة. كل طرف يكمِّل ما ينقصه لدى الطرف الآخر. وقد حاول العرب في تاريخهم الحديث الوصول إلى هذا الطريق الثالث عن طريق حزب اللامركزية في الدولة العثمانية لحل قضية الدولة- الفرد، ولكن لم يكتب لها النجاح نظراً لنجاح القومية الطورانية، وحزب "الاتحاد والترقي"، و"تركيا الفتاة" في الاستيلاء على السلطة وإلغاء الخلافة مما أحدث رد الفعل عند العرب بظهور القومية العربية كبديل عن دولة الخلافة. وكان مصير الدولة العباسية في الماضي بعد أن اتسعت أطرافها ضعف بغداد وتقوية الأمصار واستقلال بعضها.
يمكن تصور نظام فيدرالي عربي، مركزي في الدفاع والخارجية ولامركزي في التعليم والصحة والاقتصاد والخدمات العامة كما هو الحال في التجارب الفيدرالية الغربية في ألمانيا وأسبانيا أو في الولايات المتحدة الأميركية. والعقبة هي غياب الثقافة الفيدرالية التي تسمح بالتعددية السياسية واللامركزية لصالح ثقافة الفرد الواحد، والفرقة الناجية، والرأي الواحد الصائب. ويحتاج الأمر أولاً إلى إعادة بناء ثقافة التعدد في الصواب (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) دون التعيين، وتعددية الصواب، وتعددية الرأي "أصحابي كالنجوم فبأيِّهم اقتديتم اهتديتم" و"اختلاف الأئمة رحمة".