Monday, February 25. 2008
يقدم كتاب "الهزيمة: لماذا خسروا في العراق" الجديد للكاتب البريطاني الرصين والمخضرم "جوناثان ستيل" قراءة شاملة ودقيقة وغير إنشائية تلملم تفاصيل صورة حرب العراق وتضعها في قالب السؤال الكبير الذي يطرحه عنوان الكتاب.
"ستيل" هو أحد أبرز كتاب الأعمدة في صحيفة "الغارديان" البريطانية وأبرز مراسليها أيضاً, وبهذه الصفة الأخيرة فقد زار عراق ما بعد الاحتلال مرات عديدة أهلته لأن يواكب تطورات الأحداث عن كثب ويكتب عنها. وفي تلك الزيارات أيضاً قابل عدداً كبيراً من صناع الحدث العراقي, أميركيين, وبريطانيين, وعراقيين من كل ألوان الطيف السياسي والديني, وكذلك قابل مسؤولين وسياسيين عرباً من دول الجوار.
والأطروحة الأساسية التي يبني عليها "ستيل" كتابه هي أن "مخططي الحرب في واشنطن, من الرئيس إلى أقرب المستشارين إلى الأكاديميين الذين حمَّسُوهم, لم يأخذوا بالاعتبار طبيعة المجتمع العراقي, أو تاريخ العراق, ولا أيضاً طبيعة المشاعر العميقة في المنطقة التي ستؤدي إلى فشل أي احتلال غربي". فما كان يسيطر على مخيلة أولئك المخططين هو "نموذج" الاحتلالات الأميركية لألمانيا واليابان كنتيجة للحرب العالمية الثانية سنة 1945, وهما احتلالان لم يقابلا بأية مقاومة من قبل شعبيْ البلدين, بل استقبلا بقدر من السلبية إن لم يكن الترحاب. والنموذج الأكثر راهنية الذي دعم ذلك التخيل هو نموذج انهيار النظم الاشتراكية في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي, حيث انقضت الدكتاتوريات الأمنية وشبه العسكرية وحلت مكانها أنظمة ديمقراطية تعددية قائمة على اقتصاد السوق. وحاصل جمع هذين النموذجين, إذن, هو احتلال سلمي للعراق مُرحب به من قبل الشعب العراقي إضافة إلى قيام ديمقراطية عراقية مباشرة بعد سقوط نظام صدام وتحت عين الرعاية الأميركية.
ما فات إدراك الأميركيين, كما يقول "ستيل", هو أن العراق في الشرق الأوسط وليس في أوروبا، وأن الحساسية العربية للاحتلال الأجنبي, خاصة الغربي, عميقة وبالغة النفور, ومبنية على تاريخ طويل ودامٍ من العلاقة المضطربة مع الاستعمار الغربي. وإن كان هناك "نموذج" يمكن الإفادة من قراءته قبل الحرب فهو "نموذج" الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة المتواصلة من قبل الفلسطينيين لذلك الاحتلال، وليس نموذجا احتلال ألمانيا واليابان. وبسبب هذا الفقر في فهم حساسية شعوب المنطقة ومحاولة تركيب "نماذج" خيالية على احتلال سيكون مرفوضاً من البداية فإن الولايات المتحدة حولت غزوها للعراق وإسقاطها السريع لنظام صدام حسين (الذي كان مُرحباً به من قبل جزء من الشعب العراقي) إلى احتلال طويل الأمد. وفشلت واشنطن في إصدار إعلان مبكر يرسم جدولاً سريعاً لانسحابها من العراق، حتى تؤكد للعراقيين وللعرب ولبقية العالم، أنها لا تستبطن نوايا احتلالية. بل ظنت أن فكرة "الاحتلال" ليست سيِّئة إلى الدرجة التي تدفعها للاستعجال بالمغادرة.
العرب يرون في الولايات المتحدة مصدر إذلال سياسي، وانحيازا وتأييدا أعمى لإسرائيل، بما لا يمكنهم من التغاضي عن وجود أجندة وأهداف أميركية.
وما ترتب على الاحتلال المباشر هو أن الأميركيين والبريطانيين, صاروا الحكام الفعليين للعراق. وأن الحكومات العراقية التي قامت في ظل الاحتلال كانت فاقدة لأهم مقوِّم من مقومات الحكم وهو السيادة, مما كشف ظهرها أمام أنصارها قبل خصومها. وترتبت على الاحتلال أيضاً, وإطالة أمده, والفوضى التي أشاعها عقب القرار المتسرع بحل الجيش العراقي فتح العراق ولأول مرة في تاريخه الحديث لأقصى أنواع التطرف الإسلامي وتحويله إلى "قاعدة للقاعدة". وتناسلت عن تلك الفوضى أصناف من المليشيات الطائفية المسلحة التي شلت العراق كدولة ومجتمع.
ولا يقر الكتاب بطبيعة الحال بالدعاوى الأميركية التي وقفت وراء الحرب ومنها فكرة دوافع جلب الديمقراطية للعراق, بل يرى فيها مسوِّغات للمشروع الذي قام أساساً لفرض السيطرة على بلد مركزي في الشرق الأوسط من ناحية نفطية، ومن ناحية موقفه من إسرائيل. فكان الهدف هو تحويل العراق إلى دولة تابعة للولايات المتحدة عوض أن تظل خارجة عن "عصا الطاعة", تحتضن أجندات واشنطن وقواعدها العسكرية إلى آماد مستقبلية طويلة. وفات الأميركيين مرة أخرى أنه لن يكون مرحباً بهم في المنطقة وهم يأملون بتحقيق تلك الأهداف, فصورتهم وسياستهم هناك بالغة السوء, وليس كما كانت في أوروبا الشرقية إبان التخلص من اشتراكيتها. فالعرب يرون في الولايات المتحدة مصدر إذلال سياسي، وانحيازا وتأييدا أعمى لإسرائيل، بما لا يمكنهم من التغاضي عن وجود أجندة وأهداف أميركية متجسدة في واحد من أهم البلدان العربية. والأدهى من ذلك أن هذه الأهداف سرعان ما أخذت شكل تحقيقها عبر "الاحتلال العسكري المباشر"، وليس عبر إطاحة نظام صدام والمغادرة سريعاً بما يضمن بقاء جزء من التأييد الشعبي (أو الامتنان) من قبل الذين أسعدهم التخلص من صدام حسين. لكن حتى هؤلاء, وكما يدلل الكتاب كثيراً, تآكل تأييدهم ذلك مع مرور الوقت ثم تبخر كلياً مع بروز وحشية الاحتلال وما أدى إليه من قيام مقاومة (وإرهاب) جعلت حياة العراقيين بوجود نظام حكم صدام حسين الباطش أفضل من حياتهم في ظل غيابه. ويورد الكتاب مقارنات بين أعداد العراقيين الذين قتلوا نتيجة بطش صدام حسين والذين قتلوا نتيجة الاحتلال الأميركي/ البريطاني للعراق ليصل إلى أن عدد من قُتل من العراقيين خلال سنوات الاحتلال القليلة فاق بكثير من قُتل منهم طيلة عهد صدام حسين لمدة 32 سنة.
في بداية الحرب انقسم العراقيون إلى ثلاثة مواقف, تقريباً. الأول مؤيد للحرب وعينه على سقوط صدام ولا يريد أن يرى سيناريو ما بعد غيابه, والثاني معارض للحرب ولسقوط النظام, والثالث وهو موقف الجزء الأغلب من العراقيين هو التردد والتروِّي وانتظار ما سينتج على الأرض. ومع تطور الأحداث وتكرس الاحتلال على الأرض وبروز وحشيته وقسوة الجيش الأميركي في التعامل مع العراقيين وتعامله مع كل عراقي كعدو إلى أن يثبت العكس حسم هذا الجزء الثالث من العراقيين رأيهم وصاروا معارضين أو معادين للاحتلال وللولايات المتحدة. وهكذا فإن عدم إعلان جدول مبكر للانسحاب واستمرار الاحتلال وما قاد إليه أدى إلى إزاحة كبيرة وشبه شاملة في الرأي العام العراقي إلى المعسكر المعادي لواشنطن. ومن ذلك المعسكر كانت تنهل قوى عديدة جداً وانتظم أفراد ومجموعات كبيرة في المقاومة.
ورغم وضوح الصورة بعد مرور خمس سنوات على الاحتلال فإن واشنطن ما تزال مصرة ومتمسكة باستراتيجيتها حول إبقاء العراق في قبضتها احتلالياً وسياسياً واقتصادياً, وكل ذلك في إطار الرفض المتواصل لإعلان تاريخ واحد زمني للانسحاب. وفي الخلاصة يقتبس "ستيل" عن روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي الحالي قوله في شهر مايو من العام الماضي إن الولايات المتحدة تنوي الإبقاء على وجود طويل ومستديم في العراق متمثل في قواعد عسكرية. وهذه الاستراتيجية بالطبع ستظل مولدة لكل أنواع المقاومة والعنف والإرهاب، ولن تقود إلى إنهاء للحالة العراقية الدموية. بداية الحل كما يراه "ستيل" تكمن في الإعلان المباشر عن موعد محدد وقريب للانسحاب الكامل, لأن ذلك من شأنه أن يخلق ديناميكية داخلية جديدة بين العراقيين، لإيجاد بديل وطني كامل السيادة لحكم بلدهم.
|