الجزء الثالث
سنواصل هاهنا بحثنا عن القواعد التي أنتجت مقولة الجهاد من أجل إدخال الناس في الإسلام ، كنا في الجزء الثاني من هذه المقدمة نبين المعنى الديني للجهاد الدفاعي ، ونحن اليوم سنورد ما ذكره الكتاب المجيد في هذا الشأن مقتصرين على ثلاثة نصوص منها لعلمنا إن المتبقي يدخل في سياقها العام وإن أختلفت الألفاظ
النص الأول : قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) - البقرة 2/ 256 - .
صريح النص هذا وظاهره يعتبر الدين يقوم لا على الإكراه ، إذ إن معنى الإكراه : هنا هو إخبار يُراد به الإنشاء ، وهو يشبه القول التالي [ لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيل ] فهذه جملة خبرية يُراد بها الإنشاء وليس الإخبار ، إذ لوكانت إخباراً لكانت كذباً ، ذلك لأننا نجد في الواقع الموضوعي تسلط الكافرين على المؤمنين !! ولكن حين نعتبر النص إخبار بمعنى الإنشاء فإن معناه يكون بالشكل التالي : إستنهاض المؤمنين كي لاتكون الولاية والسلطة بيد الكافرين ، أي لا يجب ان يكون للكافرين سبيل على المؤمنين ..
وكذلك تكون جملة – لا إكراه في الدين - إنشاءاً ، إذ لو كانت جملة خبرية لأصبحت جملة كاذبة ، بلحاظ ما نرى ونشاهد من صور للإكراه الديني في الواقع الموضوعي من خلال البيت والمدرسة والمجتمع والدولة وكل ذلك دال على الإكراه بالفعل ..
فرجال الدين المزيفين وأصحاب الهوى يكرهون الناس على الإيمان بمعتقداتهم ، وهذا ما يجعل - الإكراه - وجوداً مادياً مُعاشاً في مجتمعاتنا البدائية ..
يقول الركابي : النص يبين هذا اولاً ، وثانياً : هو نص في مقام إنشاء حكم من أجل رفع حالة الإكراه الجارية في قضايا الفكر والدين والمجتمع .
وثالثاً : النص يريد التأكيد على الحرية كقيمة موضوعية لا زمة في مجال الدين والإعتقاد والرفض والقبول ..
ولكن لماذا - لا إكراه في الدين - ؟؟
قال لأنه ( قد تبين الرشد من الغي ) وهذه كما ترى جملة إستئنافية ، أي أن جواب السؤال مقدر ..
فقد تبين وتميز الحق عن الباطل ، وهذا الإفتراق وهذا التميز أكثر ما يكون وضوحاً في القضايا العلمية المؤوسسة على قواعد منطقية رصينة .. لهذا جاء الحكم بحرمة – الإكراه - في الدين وحرمة أستخدام العنف والقوة من أجل نشر وتبليغ الدين ، أضف إلى هذا يقول الركابي : إن جملة ( لا إكراه في الدين ) من المحكمات وليست من المتشابهات ، وهي جملة صريحة واضحة في التعبير عن جوهر الإعتقاد القائم على الحرية والأختيار ..
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه ( أبن تيميه ص 380 ) : ويستدل ابن تيميه على ان القتال لدفع الأعتداء ، من القران أيضاً بقوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) وهذا نص عام .. ويقول : إنا لا نكره أحداً على الإسلام ، ولو كان الكافر يقاتل حتى يُسلم لكان هذا أعظم الإكراه في الدين . - الجهاد والقتال في السياسة الشرعية ص 766 للدكتور محمد خير هيكل - .
النص الثاني : قوله تعالى : (( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) - التوبة 9 / 29 - .
ظاهر النص يتحدث عن قتال أهل الكتاب [ الذين هم عموم أهل الكتب السماوية ، كالمؤمنين بمحمد بن عبد الله نبياً ورسولاً
وكتابهم القرآن ، واليهود وكتابهم التورآه ، والنصارى وكتابهم الإنجيل ] ، و النص في ظاهره إنما يتحدث عن القتال بمعناه ومفهومه المطلق أي القتال بما هو ..
ولكي نتعرف عليه يلزمنا معرفة :
أولاً : الشروط الموضوعية التي يتم على أساسها هذا القتال .
وثانياً : التعريف بماهيتة وخاصيته وحدوده وقيوده .
والتعريف بالماهية هو بحث مستقل عما نحن فيه الآن ، لذلك سنتركه إلى المستقبل !!
إنما نُريد هنا التعريف بالكيفية التي يتم بها القتال ، والآلية التي يعتمدها الفقهاء في حمل ذلك القتال الناس على الإعتقاد بالدين المحمدي ، والحمل هذا كما يقول الركابي قد نهينا عنه ، لأن الله لم يأمر به ولم يأمر بالقتال من أجله ، أي من أجل الإعتقاد بمحمد نبياً ورسولاً .
وأهل الكتاب كما يقول الركابي : [ هم المؤمنون - بمحمد نبياً ورسولاً - واليهود والنصارى والصابئة ] ، وهذا هو القدر المعلوم عنهم في الكتاب المجيد ولهذا : - فقتال أهل الكتاب في النص هو دعوة لرفع الظلم منهم ومن عليهم ، أو قل هو رفع للإكراه الذي يمارسونه تجاه المخالفين لهم ، فالنص يتبنى الطريقة التي يتم بها ومن خلالها حماية الناس من سطوة ودكتاتورية وظلم رجال المؤوسسات الدينية ، تلك المؤوسسات التي تشيع في الأوساط العامة إنها هي المعبر عن الله وعن إرادته وعن ناموسه في عملية إحتكار خطيرة !! ، ولأن هذه النزعة في التعاطي مع الواقع هي عدوان مباشر و متعمد لذلك طالب النص أو حدد الآلية التي يمكن ان تساهم في نهاية العدوان والظلم ، عبر الآلية القانونية والجزائية التي تحمي الناس من بطش أهل الكتاب لبعضهم البعض ..
النص المتقدم جعل من - الجزية - هي الشرط الجزائي الذي يرتب أثراً على من أنتهك القانون العام ، تحت ظل إدخال المخالف بحد السيف فيما يؤمن به الآخر ، فالجزية : هي مفهوم عام لمطلق العقوبات المالية والنفسية والمعنوية ، ولأن المال يُمكن ان يدفع للمتضررين لذلك عمم النص فحوآها لتكون عقوبة تدفعها الجماعات التي قامت بالعدوان على غيرها من أهل الكتاب ، فهي إذن ضريبة كعقوبة مقدرة هدفها ردع المعتدي وحماية المؤوسسة الإجتماعية تدفع كتعويضات للمتضررين من الإعتداء ..
وبما انها عقوبة جزائية فالهدف الأولي منها هو تحويل الخارج على القانون إلى عنصر مفيد في المجتمع فهي إذن أداة إصلاح مجتمعي غايتها ترميم ما يهدمه العدوان والظلم والحصار ، وإشعار المتحاربين بان الدين لا يفرض بالقوة ، وان العقايد يجب ان يؤمن بها الناس من خلال مشروعها الفكري وما تحققه للناس من رفاهية وأمن وسعادة وحرية وعدل وسلام .
فالنص في صيغته ودلالته يحاول وضع حد للإكراه الديني المعمول به لدى أهل الكتاب ، من خلال وضع القواعد القانونية لتبني خيار السلام ..
و - الجزية - : في معناها المعجمي هي الجزاء أو الإجزاء والمراد منها حماية النظام العام . فقتال أهل الكتاب لبعضهم البعض ممنوع والمنع متعلق رتبة بالغرض من القتال ، فلو كان القتال هذا من أجل الإكراه على دين معين فهو مرفوض ومن يفعله منهم فالجزاء هو الحكم الإلهي الواجب تطبيقه على من قام بالعدوان على الغير ..
فلو قاتل مثلاً جماعة محمد بن عبدالله - ص - أي قاتلوا جماعة عيسى - ع - ، وذلك من أجل إدخالهم في دين محمد - ص - عنوة فهذا القتال ممنوع ومحرم و يلزمه الجزية من جماعة محمد - ص - تدفعها لجماعة عيسى – ع - ، فالجزية هنا هو تعويض مادي ومعنوي مفروض على من أرتكب جرماً بحق الغير وبحجة دعوته لدينه ومذهبه ، وليس الخطاب في النص يعني أهل الكتاب بأستثناء جماعة المؤمنين بمحمد منهم ، فهذا خطأ تاريخي وسياسي وليس هو مراد كتاب الله ولا هو مفاد النص وسياقه بل هو خطاب عام ومضمونه كذلك عام ..
وبما إننا أعتبرنا الجزية هي عقوبة وهي آلية لوضع حد للمتحاربين من أهل الكتاب ، فهي في صيغة اللفظ في النص تعني وجوب تطبيق القانون حماية للجماعة والأمن العام ، وتحرير محل اللفظ في الجانب المادي عند الفقهاء ، إنما يعزز الرؤية التي تقول بان هذا المال المدفوع كتعويض حربي إنما سيساهم في تغطية نفقات الدولة المعتدى عليها وكذلك الناس المتضررين بشكل مباشر هذا أولاً .
وثانياً : ان النص إنما أمر بالقتال لا بالقتل ، والقتال صيغة مفاعلة أي أشتراك من طرفين ، والقتل صيغة فعل أو أسم فعل ، وبين المادتين فارق في المفهوم والدلالة [ فتقول : قتلت فلاناً إذا بدأته بالقتل ، وتقول : قاتلته إذا قاومت سعيه إلى قتلك بقتل مثله أو سابقته إلى ذلك كي لا ينال منك غرة ] .
يقول الركابي : ومن النص نفهم أن الإذن لم يتعلق بحمل الناس على الإعتقاد بالدين عنوة ، لأن ذلك يستلزم القول : ( أُقتلوا ) وهذا ممتنع منه سبحانه وتعالى لذلك قال : - قاتلوا - .. وهذا يعني إن الحرية الدينية في الطريقة التي يعمل بها كل طرف هي الأصل وهي الثابت ، في ظل شريعة الله وقانونه المدني الذي يشترط للحياة نظام التكافل والتعاون والشراكة في البناء والتقدم عبر تطوير النظام المالي والضريبي لصالح الناس ..
يتحدث الركابي هنا عما يصطلح عليه في العادة في كتب الفقهاء عن شيء أسمه - أهل الذمة - أو الذميين ، وهو مصطلح مع الأسف يسيء كثيراً لجماعة محمد وللفقهاء الملتزمين به كموضوع تاريخي واجب في زمننا إيضاً لأنه ببساطة يلغي مفهوم المواطنة والشراكة الإجتماعية ، فالوطن هو حق لجميع أبنائه وهم فيه سواء ، لا فرق فيه لعربي على أعجمي ولا لأتباع محمد على أتباع عيسى أو موسى ، الكل فيه سواء لهم حقوق وعليهم واجبات ، وهم يجب ان يعملوا جميعاً من أجل البناء والإعمار ، وفي الوطن هم جميعاً جنود لحمايته من العدوان ومن الطغيان ، والحق هذا لا يُسلب من أحدهم تحت أية ذريعة ، وبه لايجوز ان يحمل السلاح دفاعاً عنه أتباع محمد بينما أتباع عيسى وموسى هم مجرد دافعي ضرائب كما يرغب بذلك فقهاء التراث ..
من أجل هذا يجدر بنا التنبيه إلى طبيعة النظم السياسية الحديثة والمعاصرة التي تعتمد الديمقراطية وخيار الإنتخاب الشعبي ، في ممارسة لبناء دولة القانون والنظام المدني وهي دولة مغايرة للنظم السياسية الدينية القديمة التي سادت في فترة الإنقباض والتراجع ، ولهذا يُعد إندثار الدولة الدينية مشروعاً شعبياً من أجل نبذ الطبقية والطائفية والمذهبية والعنصرية ، لذلك يعتبر الركابي الولاء للوطن هو الحقيقة التي تحدد ملامح المواطن ، من أجل هذا يلزمنا تحرير مفهوم ومعنى قتال أهل الكتاب من صيغته البدائية إلى صيغته الواقعية بحيث يكون المعنى جامع لكل الجماعات التي نزلت عليها كتب إلهيه ، وتحويل الفكر الشعبي ليعي هذه القضية من خلال التقليل بل ومنع رجالات الدين المزيفين منهم من ترداد خطابات الماضي بكل عقده وتخلفه وتدافعه وشحن العواطف وتجييشها كما هو سائد في البلاد العربية والإسلامية ، هذا التجييش الذي شكل عقل المسلم بطريقة خاطئة وإنفعالية وغير بنائة ، وهو نفسه الذي أسس للإرهاب المجتمعي الدائر رحاه على كل ماهو حر ومتقدم ، فكان من آثاره ونتائجه مفهوم - أهل الذمة - ودار الحرب ودار الإسلام ، وملك اليمين والإماء وما إلى ماهناك من هذا الفساد العقلي والتاريخي والديني ..
*
النص الثالث : قوله تعالى : (( وإن أحدُ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ..)) - التوبة 9 /6 - .
النص في ظاهره إنما يتحدث عن المشركين في حال الحرب معهم ، يقول النص : أن لو جاء واحد منهم مستأمناً وجاء معكم وفي جبهتكم حال الحرب ، فالواجب يقتضي إعطاءه الأمان وحمايته من التعدي والقتل ، ولا يجب حسابه كمحارب أو أسير حرب ،، يقول الركابي النص واضح الدلالة على وجوب حمايته والحفاظ عليه حتى يبلغ مايريده ويطلبه من أمن وسلام .
لذلك يقول النص [ فأجره ] .
ولكن لماذا أستعمل النص لفظ فأجره ؟؟
يجيب السياق على ذلك بقوله [ حتى يسمع كلام الله ] وهذا يعني ان يتاح له الحرية التامة للوقوف على محتوى ومضمون الفكر دون إكراه وتدخل غير مبرر ، فالحرية يشترطها النص كقيمة تُمكن صاحبها من القبول والرفض ضمن ما يقتنع ومايؤمن به ،
يقول النص [ ثم ابلغه مأمنه ] يعنى دعه يرى ويشاهد ويحاور ويناقش من دون إكراه أو ترغيب قهري أو تسويق دعائي ودع كل ذلك له يقرر ما يرآه مناسباً ومتى أتخذ القرار فيما يريد عليكم ان تبلغوه مأمنه وتحموه من كل تعدي أو إجبار أو تهديد ، وإعتبار مكانه الجديد أماناً له وعلى حياته وعلى ما يؤمن به ، وهذا تكليف لمن بيده الأمر وكذا هو تكليف لعامة الناس المشمولين بالخطاب ...
وبما ان هذه العملية تتطلب بذل المال من اجل حماية هذا الإنسان ، فهل يجوز دفع ذلك المال من بيت مال المسلمين أو بعبارة أدق هل يجوز دفع ذلك المال من خزينة الدولة ؟؟
الجواب نعم بكل تأكيد فهذا المستأمن هو إنسان .. صحيح إنه مخالف في الفكر ومخالف في الإعتقاد ، وهذا شأنه وهو حر في ذلك ، لأن ذلك منه تم وفق حريته التي يضمنها عدم الإكراه وهي بالتالي شأن خاص ، ولكن تحقيق الشروط الموضوعية لحمايته تنطلق من كونه إنسان أولاً ومواطن في الدولة ثانياً : وهذا الحق يلزمها بل يُوجب عليها حمايته وتأمين ما يحتاج إليه من مصارف الحياة التي تجعله قادراً على العيش بكرامة ، وأما موقفه من الدين والإعتقاد فلادخل لأحد فيه من قريب أو بعيد ..
يتبع
راغب الركابي
09 – 12 – 2007