Sunday, November 18. 2007
البحث الثاني
في هذا البحث ظهر للركابي عمومية المصداق القادم من الماورائية وهو الإجابة الإيجابية على السؤال المتقدم في البحث الإول ,
فجواب السؤال الثاني إنه بداهة يخضع إلى علمنا المسبق بمبادئ الطبيعة العامة وعلاقتها بالوجود العام , ولأن الطبيعة ليست ذات قانون مدون ولهذا فمعرفتنا به تكاد مختلفة تبعاً لفهم كل واحد منا لطبيعة القانون ,
ونحن بدورنا لانفرق بين ما يفهمه الفرد من الطبيعة وبين ما تمليه الطبيعة على الفرد ,
فهي في النوعين لها إرادة تحتفظ بنظام عام قد يكون ثابتاً في حدود معرفتنا بظواهره ولكنه مع ذلك لايشذ عن الطبيعة العامة التي لا يختلف أثنان بأن لها تأثير ما على درجة الأخلاق والسلوك الفردي ,
والغاية للفعل الأخلاقي هو إكتساب الفضيلة التي بدورها طريق لنيل السعادة , فالسعادة هي الغاية القصوى للسلوك الأخلاقي ,
وظهر أن من يجزع بورود المصائب الدنيوية , ويضطرب من الكدورات الطبيعية , ويدخل نفسه في معرض شماتة الأعداء وترحم الأحباء , خارج عن زمرة السعداء , لضعف غريزته وغلبة الجبن على طبيعته , وعدم نيله بعد إلى الأبتهاجات التي تدفع النفس أمثال ذلك , ومثله لوتكلف الصبر والرضا وتشبه ظاهراً بالسعداء لكان في الباطن متألماً مضطرباً , وهذا ليس سعادة , لأن السعادة الواقعية إنما هو صيرورة الأخلاق الفاضلة ملكات راسخة بحيث لاتغيرها المغيرات ظاهراً وباطناً
وغاية السعادة هي التشبه بالمبدأ , صرح الحكماء القدامى بأن غاية المراتب للسعادة أن يتشبه الأنسان في صفاته بالمبدأ .
وهذا نراه عند( جون راليز ) في نظرية العدالة حيث يضعها في الأتجاه الفلسفي الأخلاقي للعدالة الأجتماعية وكان من نتائجه ظهور قرأة عن الليبرالية التي تعتمد إلى حد كبير على أصل أخلاقي وفلسفي خاص ,
والركابي يرى أن المعاصرة الدائمة والإكتساب المتكرر يضفي على الفرد قوة , بحيث تجعله يركن إلى متطلبات قوانين الطبيعة العامة ,
ويقول فهي تؤثر على سلوكه إنما بذلك تمنطق السلوك بما يكون علة إيجابية في حركة الفرد ,
فهي لها فعلها الخاص وهو ذاتي مستديم له قدرة فعلية في تمام شمولها على الحدود الممكنة داخل أطرها العامة ,
وهنا يصبح فعلها ممتلك للقوة التي تؤثر بمقدار ذات القوة , ورد فعل التقبل أو الرفض لها ,
فالطبيعة ليست عقلاً إنما هي من العقل ولهذا قوانينها بالقوة تؤثر في ثبوت الأخلاق لكنها ظرف للتجربة الأخلاقية المكتسبة ,
إما هي على مستوى الوهب , فإنما تملي ذات الأفكار المختزنة التي تعيدها في تمام شروطها لذلك فهي من هذا الباب تكون وعاء لتجربة المفاهيم الأخلاقية المكتسبة في درجتي القانون الذي منه العقل ,
هنا الركابي يثبت بأن الأكتساب عملية جاءت من قوى فوقية , ولكن مجالها في الحدوث والأمكان التجريبي تقليداً هو الطبيعة إذا هي معلول في دائرة العقل لأنها ليست عقلاً صريحاً ,
وبالتالي فهي ترفض ضمن نظامها وحسب الإنسجام ما يعود بالشر على قانونها لأن تولد الشر إنما هو فعل الطبيعة يعني مكان إمكانه وحدوثه الظرف الطبيعي لعالمها الخاص لهذا فهو عدمي ,
والخير ليس منها لأنه لا يتولد إلا عن علة عاقلة وهي ليست كذلك لأمتناع أتصافها بصفته , لا أن الإمتناع ناشئ من ظرف الطبيعة وفعلها بين منها بما هي ذاتية لأنها معلول لأنكشاف برهان التجربة فيها , أضف إليه أنها توصف بالعقل النظري المجرد ,
يقول أحد الحكماء القدامى : أن كل واحد من العقل العملي والعقل النظري رئيس مطلق من وجه أما الأول فمن حيث أن أستعمال جميع القوى حتى العاقلة على النحو الأصلح موكول اليه ,
و أما الثاني فمن حيث أن السعادة القصوى وغاية الغايات ,
أعني التحلي بحقائق الموجودات مستندة اليه , وأيضاً أدراك ما هو الخير والصلاح من شأنه فهو المرشد والدليل للعقل العملي في تصرفاته وقيل :
أن أدراك فضائل الأعمال ورذائلها من شأن العقل العملي , كما صرح به الشيخ الرئيس في الشفاء بقولة :
( أن كمال العقل العملي أستنباط الأراء الكلية في الفضائل والرذائل من الأعمال على وجه الأبتناء على المشهورات المطابقة في الواقع للبرهان ,
وتحقيق ذلك البرهان متعلق بكمال القوة النظرية )
ولكن أحد الحكماء القدامى له رأي أخر يقول : ( الحق أنما هو من العقل النظري فهو بمنزلة المشير الناصح , والعقل العملي بمنزلة المنفذ الممضي لأشاراته وما ينفذ فيه الأشارة فهو قوة الغضب والشهوة )
ونعود إلى قول الركابي الذي يصفها بالعقل النظري المجرد وهو مايكتسب المعارف وليس هو مولد لها ,
إذاً ففعلها ومبادئها لاتكون منشئة وهو ما يكتسب , وبالتالي فهي مكان للبرهنة على التجربة الإخلاقية وعلى إثبات فلسفة الأخلاق وقوانينها الذاتية
لا أنها مؤثرة فيه بفعل من الوجود التام أو العملي بل هي لها قدرة ولكنها بالصيغة الذاتية لوجودها غير خارجة عنها إلا تخصصاً ,
وهذا ناظر إلى فرد النوع منها لا إلى فرد الجنس لأختلاف المحمول والمحمول عليه ,
فالخيرة ونظام القوانيين المدنية والأدارة كلها أرادات أخلاقية ولكنها مشرعة حسب ظروف وأستيعاب الطبيعة لها والعاطفة تجاه أياً منها لا يجعلها فوق التشريع لكون الأحساس بها من معلومات وجودها العام والمستهدف أساساً من حركتها ,
لكنه لا يعطيهاحق الأولوية بل هو مع العقل في التحكيم في الأنظمة حتى مع الحرية التي هي من المواضيع التي تأخذ مجالاً أوسع في الطبيعة على أساس وجودها الذاتي والعرضي , والقهري ,والمكتسب
ولكنها لاتعود إلى العاطفة حتى يمكن صياغة تشريع مؤقت أوله الحدود النفسانية الخاصة لأنها منه بل إلى العقل الذي يتحكم بها ويضفي عليها صفة القبول الأخلاقي والشرعي حتى تناسب إيجابي بين طرفي القضية والتجربة الأخلاقية فيها ,
يقول الفيلسوف الكبير صدر المتالهين في الأسفار العقلية من الحكمة المتعالية :
( إذ ما من شئ إلا ويمكن أن يتصور في العقل أما بنزعة وتجريده من المادة وأما بنفسه صالح لأن تصير معقولة لا بعمل من تجريد وغيره يعمل فيه حتى تصير معقولة بالفعل , وقد سبق إن معنى تجريد المحسوس حتى يصير معقولاً ليس بحذف بعض الصفات عنه وإثبات البعض بل معناه نقله عن الوجود المادي إلى الوجود العقلي )
يقول الركابي : هذا الرأي يسري على الموجودات الطبيعية بالكلية , ويمكن الإجابة عن السؤال الثالث بأن العقل له إرادة الفعل وهو إن قلنا بالفعال حياله فأن الأخلاق مترشحة عنة ,
لأن ذلك ما نعنيه بالمطلق صاحب الأمر والأرادة الذاتيين أما لو كان في الصريح منه فلا شك أنه يستجيب للإرادة الدافعة للفضيلة والزاجرة عن اتباع الرذيلة ,
ومنه أيضاً يستفاد العلم بالحسن والقبح الذاتيين ,
من هنا كان ما يقره الصريح يقره الفعال بدرجة الضرورة القصوى التي هي بمثابة الترابط الجدلي بين المقولة بالفعل والقوة فهما لذات الفعال مشتركان بالوعي والأطلاق ,
ولكنها للصريح منجزة بالفعل إذ لا تقرير دون أصله فهو مرتبط به لذلك فالنزعة الأخلاقية وعاءها العملي منه بالخصوص لأنها منه على سبيل الفعل وهي ترتبط بجدلية الوجود الموضوعي له فما يرتبه إنما هو فلسفة الإيمان بالنزعة ومحتواها الإجتماعي أي لا فقط ما تقره من أعتبارات فطرية على مستوى الإيمان بالفضيلة والخير ,
وهنا نود أن نشير إلى رآي لأحد الحكماء القدامى حيث يقول : عن الحكمة في الأخلاق التي هي مرتبطة في الخير وهي معرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه , والموجودات أن لم يكن وجودها بقدرتنا وأختيارنا فالعلم المتعلق بها هو الحكمة النظرية , وإن كان وجودها بقدرتنا وأختيارنا فالعلم المتعلق بها هو الحكمة العملية .
ويقول الركابي : ما تكون عوامله السكيولوجية إيجابية من خلال قدرة المعرفة لظرف العقل العملي ولا تغرب الفكرة عن بالكلية عن النفي السلبي للإرادة المحضة على مستوى الفعل في الشر , لأنها ليست منه كما تقدم قوله لكونها عدمية محضة وبالتالي تكون ممتنعة الوجود فيه , بما هو تقرير للفعل الأبتدائي نعم إمكانها متعلق بظرفها الخاص والمتعلق بعلتها السلبية ,
التي تكون إنفعالية وعائها العام الأمور النفسانية والجسدية أي ما يتعلق بالخصوصية المادية منه لا الروحية الكمالية .
وإن قلنا بوحدتهما في الموضوع لكن الحكم يختلف من حيث هو مطلق بذاته أو مطلق بالعرض ,
وهو إلى الثاني أقرب مما يولد قناعة بأن الرذيلة ليس موردها العقل الصريح المتعلق بالله لكنه لايمنع امكانية الحدوث في كل ظرف إيجابي ,
لابد لنا با لأستئناس بأقوال الحكماء القدامى إذ يقولون في معرض التفريق بين الفضيلة والرذيلة : إن فضيلة الحكمة عبارة عن العلم بأعيان الموجودات على ماهي عليه , وهو لاينفك عن اليقين والطمأنينة , فمجرد أخذ بعض المسائل وتقريرها على وجه لائق من دون وثوق النفس وأطمئنانها ليست حكمة ,ولأخذ بمثله ليس حكيماً ,
إذ حقيقة الحكمة لاتنفك عن الأذعان القطعي واليقيني وهما مفقودان فيه , فمثله كمثل الأطفال في التشبه بالرجال ,ولذا ورد في الصحيفة السليمانية في نشر الفضيلة والحكمة ( أن الحكمة مع الثروة يقظان , ومع الفقر نائم )
ونعود إلى الركابي إذ يرى له نقائض طبيعية لا منه بالذات بل بتعلقه بعالم الطبيعة وهذا ممكن بذاته مع قولنا إن كل ما كان مجرداً عن الطبيعة ولواحقها فذاتها المجردة حاضرة لذاتها المجردة وكل مجرد يحضر عنده مجرد فهو يعقله ,
فإذن كل مجرد فأنه يعقل بذاته ,وهذا ممكن التصور لأنه خارجاً عنها بل منها وتؤثر به على نحو الموجبية والسالبية ,
وإلى ذالك أشار الشيخ الرئيس لكنه قال : أنها متعلقة بملاكاتها الذاتية
الوجودية في حين العلم الأولي لها مرتكز على لا تعددية في معلولاتها
بل إلى معلول واحد لكنها غير مستوعبة بالكل لإمكان أشتمالها على أجزاء متعددة ومعينة خاصة فلا يوحي التجرد فيها إلى علة خارجة عنها
ويقول : إلا إذا كانت غير معقولة أو أن تصورها لا ينطبق على مصاديقة العملية ,ولأن النزعة الأخلاقية لا تشذ عن طبيعة العقل فلهذا لا تكون علتها في الطبيعة منها إنما هي منه على أساس أشتماله عليها ,
فترك الخير في مكان لايتم إلا بحصول خير أكبر منه , وهذا لايولد حباً للأنا العليا بل هو التماس المنفعة المتجزئة والتي تكتمل بحالات العقل والمعرفة التامة ما دام العقل لا يطلب شيئاً يعارض سير الطبيعة ,
ولكن يجب فيها أن تكون الفضائل ضرورات من القدرة لاتنفي التواضع وليست هي الدعوى إلى الأستسلام بل إلى معرفة بطريقة الحب في الفضيلة مع مراعاة العواطف العامة ,
فالعاطفة مثلاً عبارة عن فكرة ناقصة ما لم يهديها العقل , كما أنه ميت ما لم تنفخ هي فيه روح الحياة , من ذلك يجب أن تستخدم كقوة دافعة يسيرها العقل كيف شاء ,ولأنها بالفعل لايمكن أن تكبت أو تدفع إلا بعاطفة أخرى مناقضة لها تكون أقوى منها ,
يقول بعض الحكماء القدامى : أن العاطفة هي من صفات الفضيلة والفضيلة هي من العدالة وإن حقيقة العدالة أو لازمها أن يغلب العقل الذي هو خليفة الله على جميع القوى حتى يستعمل كلاً منها فيما يقتضي رأيه ,
فلا يفسد نظام العالم الإنساني , فأن الواجب سبحانه لما ركب الأنسان بحكمته الحقه ومصلحته التامة من القوى الكثيرة المتضادة , فهي إذا تهاجت وتغالبت ولم يقهرها قاهر خير , حدثت فيه بهيجانها وأضطرابها أنواع الشر ,
وجذبه كل واحد منها إلى ما يقتضيه ويشتهيه , كما هو الشأن في مركب ,
وقد شبه المعلم الأول مثله بمن يجذب من جهتين حتى ينقطع وينشق بنصفين أو من جهات كثيرة فيتقطع بحسبها ,
فيجب على كل أنسان أن يجاهد حتى يغلب عقله الذي هو الحكم العدل والخير المطلق على قواه المختلفة , ليرفع تجاذبها ويقيم الجميع على الصراط القويم ,
ولو أستحكمت رابطة المحبة والعاطفة وعلاقة المودة بين الناس لم يحتاجوا إلى سلسلة العدالة , فأن أهل الوداد والعاطفة والمحبة في مقام الأيثار ولو كان بهم خصاصة ,
فكيف يجور بعضهم على بعض ,
والسر أن رابطة المحبة أتم وأقوى من رابطة العدالة لأن المحبة وحدة طبيعية جبلية , والعدالة وحدة قهرية قسرية ,
وعلى أنها لاتنتظم بدون المحبة والعاطفة , لكونها باعثة للايجاد ,
وقيل : ان المحبة هي السلطان المطلق والعدالة نائبها وخليفتها .
وبالتالي فلا تظل كذلك إلا إذا تكونت في الذهن فكرة عنها واضحة ومحددة أي أنه كلما أستطاع العقل أن يحول ما فيه من عواطف إلى افكار يصير أمتن أساساً وأبعد أن تزعزعه العواطف الجامدة ,
فالشهوات أن تولد من فكرة مبهمة ناقصة عدت عاطفة إما إذا نشأت عن فكرة واضحة محددة كانت فضيلة , أي أن كل ما يعمله الإنسان مبنياً على أساس من العقل والتفكير لا على المشاعر والعواطف فهو عمل فاضل ,
إذ لا فضيلة مجردة إلا بالعقل ومنه سواء الفعال أو الصريح , فبالعقل يمكن أن يتحكم الفرد بمستقبله وأن يحرر نفسه من كثير من القيود ,
إذ الحرية الحقة هي سيطرة العقل وفاعليته وهي التخلص من أغلال العواطف العمياء التي لاتستنير بهدى العقل وإرشادة فلن يكون الإنسان حراً إلا بقدر ما هو عالم عاقل ,
وإلى ذلك ذهب المفكر جون ديوي بقوله :
يكون الطبيب أو المهندس حراً في عمله بقدر علمه بما يقوم به من عمل ولعل في العلم مفتاح كل حرية .
وبالتالي فلا أخلاق يمكن ملاحظتها أو الشعور بها دون العقل فهو مفتاحها كما أن العلم مفتاح الحرية .
تنبيه
قالوا بأن للأخلاق الكاملة صور ثلاث :
أولها : ما دعا إليه بوذا والمسيح من الرحمة واللين , وأعتبار الناس جميعاً سواسية لا يمتاز رجل عن رجل وهما يدفعان الشر بالخير ويوحدان بين الفضيلة والحب ويميلان في السياسة إلى الديمقراطية المطلقة .
وثانيها : ما دعا إليه ماكيافيلي وهوبز ونيتشه , من تحبيذ القوة وعدم المساواة بين الناس , وهما يدعوان إلى القتال إذ يرون أن فيما فيه من أخطار وأنتصار لذة الحياة كلها , وعندهما ان الفضيلة هي القوة وينادون في السياسة بتسليم الحكم إلى طبقة أرستقراطية .
وثالثها : أخلاق أرسطووأفلاطون وسقراط , الذين ينكرون إمكان تطبيق أحد المثالين السابقين تطبيقاً عاماً ,
فلا القوة وحدها ولا الرحمة تستطيع أن تسود ,
وهم يعتقدون أن العقل المثقف الناضج وحده هو الذي يستطيع أن يحكم تبعاً للظروف المختلفة متى يجب أن يسود الحب ومتى ينبغي أن تتحكم القوة وهم بذلك يوّحدون بين الفضيلة والعقل ويرون أن تكون الحكومة السياسية مزيجاً من الأرستقراطية والديمقراطية .
|