لا يجادل أحد في أن العقل العربي يمر بأزمة حقيقية منذ فترة طويلة، فقد توقف منذ سقوط بغداد على يد هولاكو عن العطاء والإبداع، وأصيب بالشلل، متصفاً بضعف الرؤية وضحالة الفكر وتقديس السحر والشعوذة والأوهام وعبادة الفرد،
والاستعاضة بالبيان والإسهاب الممل بدلاً من الخلق والبناء. وقد حجبت هذه الأزمة عن العرب جميعاً الوعي والإرادة والقدرة على الفعل. وغدونا قياساً للآخرين، متخلفين في كل شيء، متخلفين في ثقافاتنا ومعارفنا العلمية، ومتخلفين في قضايا التنمية والتطور والتصنيع وإدارة شؤون المجتمع، متخلفين في أعمالنا الأدبية والفنية والإبداعية، ومتخلفين في شؤون الصحة والعلوم الرياضية والتطبيقية والكيمياء والفيزياء، وعاجزين حتى عن حماية أنفسنا وثرواتنا ومقدراتنا واستقلالنا وكرامتنا.
في مجال علاقتنا مع بعضنا بعضاً لا نزال نعيش بعقلية داحس والغبراء. لقد فشلنا في مشاريع التنمية والتعليم، وفشلنا في مواجهة المشروع الاستعماري والصهيوني، وفشلنا في تحقيق العدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، وعجزنا عن تحقيق الحد الأدنى من التضامن العربي، وحتى مجالسنا ذات الطابع الإقليمي التي نشأت هنا وهناك عجزت عن تحقيق الطموحات والأهداف المرجوة منها، وأصبحت نسخاً كاريكاتيرياً مشوهاً لواقعنا العربي المأزوم والمهزوم. نحن الآن باختصار، كما وصفنا بعض المثقفين من أبناء جلدتنا، لا نزال نعيش في مرحلة ما قبل السياسة وما قبل التاريخ.
لقد دفع عنف الشعور بالواقع المتردي للعقل العربي، بعدد من الكتاب والمفكرين العرب للحديث عن أزمة العقل العربي، وصدرت عشرات الكتب والدراسات التي تناولت هذا الموضوع من مختلف جوانبه، وربما أسهم كثير منا، عن غير قصد، في تكريس هذه الأزمة بدلاً من معالجتها، عندما استعيض بالبيان والإنشاء، سبيلاً للولوج في مسببات الأزمة، بدلاً من التبضيع والتشريح والتفكيك والتحليل والاتجاه المباشر نحو تنقية العقل وتطهيره من الصدأ الذي علق به.
فقد ألف الأستاذ عبد الله العروي كتاباً عن مفهوم العقل، وكتب الدكتور برهان غليون عن اغتيال العقل، والأستاذ جورج طرابيشي عن نظرية العقل، في دراسة منفردة ووحدة العقل في دراسة منفردة أخرى، وكان الدكتور علي الوردي قد كتب قبل عدة عقود عن مهزلة العقل، وكتب محمد الجزائري عن احتلال العقل، وألف الدكتور أبو يعرب المرزوقي كتاباً في إصلاح العقل، وركز مشروع الدكتور محمد عابد الجابري في موسوعته على العقل العربي في أربعة مجلدات تناولت تكوين العقل العربي وبنيته السياسية والأخلاقية، ومواضيع أخرى. المهم أن موضوع العقل العربي قد شغل، ولا يزال، الكثير من الباحثين والمفكرين العرب، وهم بذلك يسجلون اعترافاً ضمنيا بأن هناك أزمة حقيقية يواجهها العقل العربي، ويحمّلون هذه الأزمة تبعة التخلف الذي تعانيه الأمة، والأزمة هذه، كما يبدو، لا تزال مستعصية على الحل.
إن الجميع يقر بأن الزمن يسبقنا، وأن حركة التطور الإنساني لن تنتظرنا، مادمنا نحن لسنا في عجلة من أمرنا. لا مناص من حث الخطى لهثاً وركضاً، لكي نتمكن من التواصل مع ركب الحضارة الإنسانية، كي نعوض المسافة التي فاتت علينا ونصبح عنصراً من عناصر هذا الزمن، وهي مسافة تقاس بقرون طويلة وليس بعشرات السنين.
ما مصدر هذه الأزمة إذاً، وكيف يمكننا الخروج بحلول ناجعة منها؟
الأزمة التي تواجه العقل العربي الآن، كما يبدو من قراءتها تكمن في معضلتين رئيسيتين، الأولى ثقافية والثانية بنيوية، وهما معضلتان متشابكتان ومتداخلتان، يصعب الفصل بينهما.
فالبنية البطريركية لا تزال هي السائدة في المجتمع العربي، بكل مكوناتها القبلية والطائفية والعشائرية والمناطقية، وما يحمله هذا التركيب المجتمعي من عادات بالية وتقاليد عفا عليها الزمن، وتشكل هذه العناصر مجتمعة سداً منيعاً وكاسحاً يحول دون كسر العلاقات الاجتماعية القديمة والخروج من شرنقتها. ففي البيت يسود نظام الطاعة بكل قوته وجبروته، وينمو الطفل تابعاً فاقداً للاستقلال والإرادة، حيث يكون قد غرست فيه نزعة الانطوائية والاتكالية وقتلت فيه روح العطاء والإبداع، بعد أن أصبح تابعاً بالمطلق لتقاليد منزله. وما أن يشب عن الطوق، ويدخل أبواب المدرسة، حتى يواجه بنظام طاعة آخر أقسى وأعتى وأكثر صرامة من ذلك الذي يواجهه في المنزل. إن نظام ومناهج التعليم في مدارسنا لا تختلف كثيراً عن تلك الأعراف والتقاليد التي ينشأ عليها الطفل داخل منزله، والتي تكرس فيه نظام الولاء والتقليد والجمود والطاعة. وهكذا يتكرر الحال، بالنسبة لأجيالنا الجديدة في دورات ميكانيكية متعاقبة، وفي إيقاع مستمر يتصف بالحوصان والدوران يتواصل معه الصخب، ولكن التاريخ، يبدو فيه متوقفاً، غير قادر على التحرك إلى الأمام. وعند التخرج يواجه جيل المستقبل بحقائق أكثر مرارة وتعقيداً، تدخل ضمنها المحسوبية والواسطة والوجاهة والحسب والنسب.
إذا كان علينا أن نتجاوز واقعنا المزري الراهن، فيجب أن نعترف، من دون مواربة ليس فقط بقوة ورسوخ العناصر التي تكرس التخلف في ثقافتنا، ولكن أيضا بقوة حراسها والمدافعين عنها.
إن هناك أفراداً ومؤسسات عاشوا لفترة طويلة يقتاتون هذا الواقع ويعيشون عليه ويرون في التعرض له مواجهة مع المقدس. إن التخلف بالنسبة لهم هو “الحق الإلهي” الذي تهون في سبيل بقائه كل التضحيات. وسوف يستخدمون في ذلك كل الأسلحة، بما في ذلك توجيه تهم الهرطقة والزندقة لكل من ينشد التمدين والتحديث والتطوير وبحق كل من يدعو إلى الحرية وسيادة نهج التسامح والابتعاد عن التكفير.
ولكي تنتصر مجتمعاتنا العربية في معركتها مع التخلف يجب أن تكون نقطة البداية إحداث تغيير جذري وجوهري في المرتكزات الثقافية، وأن يتجه التغيير، في كل الأحوال، إلى براعم المستقبل، إلى الأطفال، إلى الأجيال القادمة، إلى العناصر التي يفترض فيها أن تسهم في صناعة ربيعنا الواعد وغدنا الأفضل. نحن بحاجة إلى أن نلغي نظام الطاعة من مناهجنا الدراسية، ونضع بدلاً منه نظاماً قائماً على الاحترام والفهم المتبادل. لا بد من كسر حاجز الخوف من الكشف لدى أجيالنا الجديدة، وأن نشجعهم على اقتحام تجربتهم الخاصة وتعلم العلم الحق والقول الحق.
لا بد أن تركز المناهج الدراسة على العلوم التطبيقية، والمعامل التجريبية، واستيعاب روح العصر، والتشجيع على المبادرة والإبداع، وإيجاد الحوافز التي تشجع على الاختراع والابتكار. ويجب أن تمحى من مناهج التدريس كل الإيماءات التي تروج للخرافة والأوهام والدجل. وأن يعود للعلوم العربية صفاؤها ونقاؤها، اللذان كان لهما الفضل الكبير في صناعة النهضة العربية والإسلامية في ظل الخلافة الراشدة وخلال العصرين الأموي والعباسي.
وعلى المستوى البنيوي، فإن هناك ضعفاً حقيقياً وهشاشة في التكوينات الاجتماعية العربية، لن يتم تجاوزهما إلا بأمرين، أولهما الدفع بعملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية خطوات واسعة وكبيرة، فذلك سيكون حتماً عاملاً مساعداً لخلق قوى وتقاليد اجتماعية جديدة متجانسة مع المطالب المشروعة لخلق المجتمع الجديد والمتطور. والأمر الثاني هو الإسراع بتدشين مؤسسات المجتمع المدني بكل تفرعاتها وتشعباتها، وإتاحة المجال للفكر لأن يعبّر عن نفسه في مناخ صحي، معزز بحرية التعبير واحترام الرأي والرأي الآخر، وفي ظل سيادة نظام تعاقدي يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويوضح حقوق وواجبات المواطن، ويحترم فيه استقلال القضاء، ولا تبقى فيه سلطة لأحد، كائناً من كان، فوق القانون.
تلك هي باختصار، حسب رأينا، البيئة التي يمكن من خلالها معالجة الخلل في العقل العربي، وما لم يتوافر وجود مثل هذه البيئة فستبقى الأزمة قائمة ومستعصية، وقديماً قال أجدادنا في مأثور ما روي عنهم “العقل السليم في الجسم السليم”.
* كاتب أكاديمي سعودي متخصص
في السياسة المقارنة