تُصنف الأصولية بصيغتها العامة بأنها ذلك الشيء الذي يقوم به أو عليه ، و التركيبة المعجمية للكلمة تخلو من تعريف محدد و معلوم ، لكن ما ذهب إليه الشريف الجرجاني في التعريفات يقترب من المعنى الذي ذهبنا إليه و تصورناه ، فهي عنده مكونة من - الأصل الذي يبتنى عليه غيره - ، ولا يبتعد المعنى الدلالي للكلمة في الكتاب المجيد عما ذهبنا إليه ، قال تعالى : [ كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ] - إبراهيم 24 ، وقال تعالى : [ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها..] - الحشر: 5 .
ومع تطور اللسان العربي في استخدام الكلمة بانَ التميز في طبيعتها المادية بين كونها مفهوماً عاماً و كونها مفهوماً دينياً ، والتميز هنا نسبي في طبيعتها ، وثمة مقاربة تبدو واضحة بلحاظ المتكلم ، وقيل إنما الأصولية : - هي قواعد مرجعية يستفاد منها في إستنباط أو إستنتاج الأفكار - ، وهذا القول وجد في الترجمة اليونانية لسفر حزقيال 11 : - ( .. وكانت أصولها تحته ، فصارت كرمة ، وأنبتت فروعا ) - ، وفي إنجيل لوقا حيث قال : - ( .. وهؤلاء ليس لهم أصل .. ) - ، ومنحنى إشتقاق كلمة أصولي يؤدي إلى ما هو :
1 - مطلق أو عام فيما تقوم عليه الأبحاث والدراسات والأفكار 2 - وخاص فيما يقوم عليه الديني من الفقهي و الكلامي .
والجذر الفلسفي للكلمة يرتبط بقيمة المعلومة التي يُراد إيصالها ، وكذلك الأسس التي تنتجها من خلال الإيحاء المعلوماتي الذي يرسخ مفهوم القناعة والثقة ، والذي يستمد عنصر قوته من أسسها الموضوعية التي قامت عليها ، وبحسب تعريف أوكسفورد يمكن وصف ما تقوم به الأصولية ( هو الدفاع ضد كل فكر ما يشكك أو يتبنى طروحات مخالفة لأسسها ) ، والدفاع هو واحدا من الأشياء التي لفتت الإنتباه إليها ، كموقفها المناقض للداروينية التي أعتمدت على الطبيعة وما تُقدمه من حقايق بايولوجية ، ولهذا وصفها المقرر روبير بالقول : - بأنها تلك الفكرة التي أدت دورا مزدوجاً في نسف فكرة الخلق والخطيئة - التي أعتمدها سفر التكوين في قصته المشهورة عن الخلق والخطيئة ( القصة الساذجة ) ، في الفكر الديني العتيق لا تقدم الأصولية المسح الإيبستيمولوجي المطلوب لمسألة الخلق ، وفي المقابل تبنى العلم حذف وتعطيل الفكرة القائلة بوجود ( حواء ) كمشارك في أصل الخلق الأول ، ومعززاً مفهوم - آدم - بإعتباره أسما للجنس لا أسماً للنوع ، بمعنى أدق يكون آدم المخلوق المشارك الجامع والذي يحمل الصفات الثنائية للتركيب السالبة والموجبة المنفصلة أي القطبين المنفصلين الذكر والأنثى .
وفي هذه الحالة لا يبدو الإدعاء الإعلامي المماطل الذي تبثه مدارس الظل ، والتي تدعي فيه بان سمات الأصولية تبلورت في بداية القرن العشرين ، إدعاءا ذي بال طالما يراد منه وضع الأسم والصفة في غير موضعهما وفي الجهة المناوئة لمنطق التطور ، فالعودة إلى الأصول لا يعني التمسك الحرفي بالنصوص كما تدعي الموسوعة الكاثوليكية ، وإنما هي تعبير عن حماية للنص بحسب التفسير العلمي العقلاني ، فمثلاً حين تركز الأصولية العلمية على مبدأ التوحيد وبان الله واحد أحد ، فهي تسلب من أولئك القائلين بتعدد الآلهه حجتهم ودعواهم ، كما أنها تؤكد على الإيمان و بان البشر مهما سمو في الذات أو في المعنى لن يقربوا أبداً من حد الألوهية ، وفي السياق التفصيلي ذاته يلزم نفي فكرة الرجعة أو عودة بعض المؤمنين إلى الدنيا بعد الموت ، فكلا التصورين باطلين حين يوضعان في الميزان في قياس السبب والعلة المُرادة من الرجوع والعودة ، كما إن الثقة الزائدة بعودة المسيح ورجعة الإمام علي إلى دار الدنيا ليُحاكم أعدائه وقاتليه مصدر هذه المعلومة الوهم والتوهم الذي تسرب عن طريق التلقين والأخبار الكاذبة ، ومحاكاة المؤسسات ذات الإتجاهات الخاصة و التي تظل تدفع بالحجج والبراهين حول ذلك المعنى مع علمهم إنها مجرد تخيلات وهرطقة ..
ويعزز هذه الرؤية الميثيولوجية للمعنى ما تبناه مؤتمر نياجرا سنة 1895 م ، الذي أعتبر الإصولية وماتقوله وتتبناه شيئاً مقدسا معصوما ، وعممت تلك الرؤية على كل موضوعات الكتاب المقدس ، من قضية الخلق وولادة المسيح وعودته إلى دار الدنيا إلى مجمل قضايا الشريعة ، هذا ولم تظهر اللغة العربية تعميماً محدداً ومعروفاً للمصطلح ، إنما تبنته رواية ونقلاً عن البيئة التي أُنتج فيها ، وهذا تأكيد بإن المسلمين لم يتداولوا هذا المصطلح لا في الصدر الأول ولا في المراحل اللاحقة توالياً ، كما لم يكن هذا المصطلح من المحددات البيانية للتعريف بهويتهم أو خطابهم العام ، وحين شاع تداول هذا المصطلح وإستخدم جاء منسوخاً ولذا تحمل تبعات ذلك النسخ الذي جاء مشوهاً ممسوخاً ، وبالتأمل لم نجد هناك ثمة إجحافا مقصوداً حين الزج بهذا المصطلح بالعنوان السلبي في الدائرة الإسلامية ، لأن المسلمين بالفعل والقول مارسوا هذه السلوكيات ولذلك وضعوا في دائرة الإتهام ، يأتي هذا بعد صعود وتنامي حركة المنتظمات الإسلامية السياسية ، ولكن لا يجب تعميم الإنكار السلبي عن متعلقات الفعل من قبل حركات الإسلام السياسي .
فكان لها ذلك الدور المعتم حول مفهوم الإسلام والمسلمين ، ودعونا نستذكر معاً وسوياً أفعال وممارسات وشعارات وخطابات تحريضية وتعبئة وتحشيد ، كل تلكم الأعمال تسهل عملية الزج بهم في هذه المتاهه التي عبرت عن نفسها في أكثر من موقف ، وليس من الحكمة التوقف عند التسمية فالأصل هو ما ينطوي عليه عملها إذ لا مشاحة في الأسماء والمصطلحات ، فلقد أثبت المشرع الإسلامي هذه الميوعة في سلوكه ، حين سمح لخياله الذهاب بعيداً من خلال تقديس النصوص والشخصيات ، هذا التقديس الذي أنعكس على سلم الأولويات فلم يعتن بقرءاة النصوص قراءة علمية وأخذ عن الغير الكثير من مناهج البحث ، وتلقى الكثير من المفاهيم والممارسات التي حيّدت دوره ليكون صداً لغيره ، وقد مارس المشرع الإسلامي نفس ذلك الأسلوب في إضفاء الأهمية على النصوص البشرية وقائليها ، محنطين العقل ودوره في التنقيب والبحث والتجزئه ، ولم ينفع الدفاع الذي يبديه بعض الكتاب عن السماحة والوسطية والنظر للغير بروح إيجابية ، هذه التطبيقات إعلامية محظة ليس لها رصيدا معرفيا دقيقا ، بل ان الشواهد والشواخص تحدثنا عن صفة ترسيخ المقدس وجعل النصوص والفقهاء والسلاطين فوق الحقيقة وأهم منها .
ويجادل البعض في صحة الإختلاف ويذهبون بذلك مذاهب شتى ، لكن الحقيقة تقول إن الإختلاف ولد إنتكاسات وتراجع لا مثيل له بل وتقاتل وسفك دماء ، ولازلنا نعيش نكبته في كل عصر وحين ، وضغوطات الإختلاف دائما الحديث عنها بصيغة الحاضر والماضي والإستحضارات التي يظن كل فريق انه صاحب السطوة والحق ، حتى تقوقع القوم حول مقولات مفترات منها مقولة - الفرقة الناجية - تلك الصنيعة التي توظف بحسب الواقع ومن بيده القدرة ضد المخالفين .
وفي ذلك يسود المقدس النوعي والمقدس النصي الذي صنعوه في المخيال معممين سطوته وجبروته على العقل ومدركاته ، في الكتاب المجيد حين يتحدث عن اصل الخلق ، يبسط المعنى كثيراً حول مادة الصنع وطريقته حتى ويكأنك تعيش الفكرة ، تحت مظلة المسألة الطينية ويغضب الكتاب عن الرادين لها من وجهة نظر التمايز أو الطبيعة ، هذا على مستوى العموم وحين يخصص البعض ببعض الميزات يربطها بالجانب الروحي والتذليل من عقبات الغير في مواجهة اصل الإيمان والعبادة ، فجملة - فضلتكم على العالمين - إشارة لهذا المعنى ليس من حيث نوع المادة ولا خصوصيتها ، ولكن بالعلاقة مع الله والامتثال لعبادته دون غيره ، وهذا على غير ما جاء في سفر اشعيا أو الحكاية التلمودية عن نوعية الأجناس البشرية ، لكن هذه السفسطة وجدت اذان صاغيه لدى فرق اسلامية بعينها فتحدثت عن هذا التنوع مكتسبة لهم صفة نوارانية مقدسة معصومة وهكذا ، طبعا لم ينشأ هذا ويتولد في الفكر العربي البسيط ولكنه نشأ بفعل التلاقي مع الأخرين والأخذ عنهم فكرة تقديس النص ، والأخذ بحرفيته ، وكذلك تقديس أقوال رجال الدين ، والذي يهمنا في الأصولية هنا ليس كونها مصطلحاً وحسب ، بل مفهومها السائد المتداول في وعينا العام ، ذلك المفهوم الذي أرتبط بفعل - أصل و أصيل - ومنه تأصيل و أصالة ، وهكذا فهو اصولي : والذي هو صفة وصف من دون تحديد لموقف فكري محد ومعين ، لكنه مع الأيام غدى ذلك المعنى المُراد لدى دارسي أصول الفقه وأصول الدين ، وهذه صفة محمودة غير مذمومة ، وهي تنتمي لهذا الجذر الذي يُقسم في وعينا التصور والمفهوم إلى :
أصولية عقلية : وهي تلك التي تقيم متبنياتها وبراهينها على العقل ، وهذا النوع غالب في أدب الكتابة والإعلام الإسلامي لدى طوائف المسلمين من السنة والشيعة .
أصولية سلفية : وهي تلك التي تقوم وتعتمد على الأخبار ومخلفات السلف من مرويات وأجتهادات وأفكار .
.
و النوع الأول أصحابه يدعون إنهم يؤمنون بالإجتهاد وبالفكر وبالعلم كطريق لفهم النصوص والأشياء ، وهذه الدعوى فيها الكثير من الوهم والتحايل على الحقيقة ، ذلك أن من أشراط الإجتهاد الموضوعية هو السماح للعقل أن يعمل بحرية ومن غير مثبطات سواء أكانت تراثية أو تاريخية ، أو من مقولات وأراء مخالفة للواقع ، كذلك ومن لوازم الإجتهاد إفساح المجال للحوار العقلي في النقض والإبرام من غير حدود أو سقوف مسبقة و مفترضة ، وكذا من لوازم الإجتهاد القبول بالرأي الأخر مهما أختلف أو تباعد ، وفي هذا لا فرق واضح بينه وبين النوع الثاني ، أعني لا فرق بين الأصولية العقلية و الأصولية السلفية التي هي في الأصل تعطيل للعقل وحدود مداركه ، وهي تعلن مكابرة ودون حياء سد أبواب التعقل وما ينتج عنه وما يؤول إليه ، وهي تدعوا للإيمان القسري الجبري الإكراهي ، أعني إن السلفية تسد أبواب المعرفة المنطقية والفلسفية القائمة على الدليل والبرهان ، لأنها تظن في ذلك أنها تحترم النصوص وتقدسها وتحميها ، موهمة أتباعها أنها أنما تريد ان يكون اللاحق موافقاً ومرتبطاً بالأصل دون تشوية أو تعرية ولهذا تتمسك بمفهوم السمع والطاعة السلبيين .
إن تقسيم الأصولية إلى عقلية و سلفية هو تقسيم أفتراضي أو قل منهجي من أجل الفهم والإدراك التبسيط ، وإلاَّ فتاريخ الأصولية بشقيها نشأ وترعرع في ظل أدب الكلام والإيديولوجيا ، وكانت الشرارة المعلومة بالنسبة لنا هي تلك الصرخة التي أطلقها واصل بن عطاء وتبعه جمهور ممن ضاقوا ذرعاً بالسمع والطاعة لدى مدرسة البصري ، هذا ما يوحي به العصر العباسي الثاني ومناصرته للفقيه أحمد بن حنبل ، وذلك رداً على ما ذهبت إليه المعتزلة ، والمعتزلة : هي فرقة كلامية ظهرت في بداية القرن الثاني أواخر العصر الأموي ، وقد أزدهرت في البصرة ولعبت دوراً رئيسياً في العصر العباسي على المستوى السياسي والديني ، فأعتمد أصحابها على العقل ورفضوا الأخبار بالعقل والتي لم يرد فيها شرع مقبول - الموسوعة الدولية -
.
هي أذن فرقة أصولية إعتقادية عند المسلمين كانت تعتمد العقل كدليل وحجة وبرهان ، لكن الحنبلية كافحت هذا التوجه وحاربته وأنتصرت في بعض الجولات ، مع صعود خلفاء آمنوا بذلك ، وقد تبنى الفكر الحنبلي فقهاء مسلمين منهم ابن تيمة الجزري والذي تنسب اليه الجهادية المعاصرة وكذلك تلميذه ابن القيم الجوزي ، وهؤلاء جميعاً أشاعرة من جهة المذهب الكلامي والإيديولوجي ، وأما الحركات المعاصرة من القرن العشرين وإلى يومنا هذا فقد تبنت أفكار أبن تيميه وتلامذته كمحمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب ، والأخوان المسلمين بمصر ، وهؤلاء كان أثرهم في نشر الأفكار المتطرفة الراديكالية عبر كتابات سيد قطب وحسن البنا والهضيبي وغيرهم ، التي تدعوا لمحاربة العلمانية والجهاد ضد الحكومات الوطنية .
وكانت لكتابات أبو أعلى المودودي أثرا في تنامي الفكر المتطرف ، كما لعب الرئيس السادات دورا غير مباشر في صناعة الإرهاب والتطرف ، من خلال السماح لكثير منهم بالنشاط والحركة حين فتح لهم الأبواب في عملية غبية معروفة في حينها ، ولأن السلفية الجهادية لا تؤتمن على حال فقد كان منهم أن قتلوه يوم 6 أكتوبر 1981 رداً للجميل الذي فعله ، ثم أزداد نشاطهم ونفوذهم مع نجاح ثورة آية الله الخميني في إيران الذي حفزهم من باب التقابل ، فنشأت حركات متنوعة و كثيرة ، ثم جاء الإحتلال السوفيتي لأفغانستان ليدعم ويطور هذه الحركات على نحو واسع مع تشجيع من الدول العربية الخليجية وبالتعاون مع المخابرات الامريكية في حينه ، وعلى أثر ذلك ومن خلاله تكونت منظمة القاعدة من شباب عرب ومن غيرهم ، وكانت للقاعدة ممارسات ارهابية شديدة في كينيا نيروبي وفي السودان وفي السعودية ، حتى جاءت لحظة التدمير الكبير يوم 11 سبتمبر 2001 بتدمير برجي التجارة في نيويورك وضرب وزارة الدفاع البنتاغون ، وعلى أثر ذلك شنت أمريكا بعهد جورج دبليو بوش الأبن حربا في أفغانستان دمرت دولة طالبان ومنظمة القاعدة تلك الحرب التي لم تنته بعد ، ومن ثم الخطيئة الكبرى حين دخلت قوات أمريكا العراق بحجة البحث عن أسلحة دمار شامل ومساعدة الإرهابيين من قبل صدام حسين ، منذ ذلك الحين تنامى دور الأصولية والإرهاب حدا منقطع النظير ، وقد شجع على ذلك التناقض الشيعي السني في الإسلام ، ومع تبلور فكرة إقامة الحكومة الإسلامية تبنى فرع من الأصولية العراقية مبدأ إقامة الخلافة الإسلامية وهكذا نشأة - داعش - كمنظمة وكخلافة أمتدت على أراض واسعة من العراق وسوريا ، وتحكمت بمصادر الطاقة ، وقد شجعتها بعض الحكومات الخليجية وتركيا لأغراض محلية وأهداف متناقضة ، طبعاً لا يفوتنا التذكير بالخطأ الإستراتيجي الذي قام به أوباما حين شجع على ما سمي بالربيع العربي ، الذي ساهم عن عمد أو بدونه بنشر حالة الإرهاب وتوسيع دائرته في كل المنطقة العربية من افريقيا الى اسيا صعودا الى اوربا وامريكا .