ــــ ١ ــــ
ماذا كان سيفعل أحمد الأسير في القاهرة؟ وإلى أين كان يذهب: نيجيريا؟ ليبيا؟ وما هي حدود شبكات احترفت إقامة المذابح؟ أين أولها وأين آخرها؟
وهل مذابح الأسير في لبنان مرعبة أكثر من مذبحة «رابعة» ضد الإخوان؟ وكيف نرى استعراض جماليات العنف الذي تتناقله «داعش» معها من العراق إلى ليبيا؟
ولماذا يُقتل المدنيون وحدهم في حرب النظام السوري ضد عصابات «جيش الاسلام»..؟ مَن يتصور أنه يبحث عن حياة بالمذابح من بيروت إلى دوما ومن القاهرة إلى طرابلس الغرب؟ هل هي شبكة مذابح متحدة؟ أم صراع آباء روحيين يجلسون في مكان مكيّف ينتظرون توزيع العطايا والفرص في تكوين امبرياليات إقليمية؟
والأهم: إلى متى ستظل المذابح تطغى على برامج التسلية المثيرة؟
أهم لأننا هنا في هذه المنطقة أمام منحنى وجودي تتصارع فيه أنظمة الاستبداد القديم وكياناتها الكبيرة مع ميليشيات المرتزقة. والضحايا مدنيون. كلهم يلتهمون «الجسم المدني» الهش أصلاً. من شارك الإخوان في شركة الحكم أيام المرسي؟ ومن أدخل رايات السلفيين السوداء إلى دوما بعد التجربة المراهقة للجماعات المدنية هناك؟ ومن يوسّع لـ «داعش» مجالها الحيوي لتلتهم بقعاً تجرّب فيها استعراضاتها؟
المذبحة تلو المذبحة، ولا شيء سوى دهشة الفرجة. كأننا في استعراض من استعراضات تناولها «جي ديبور» ملخصاً مأساة التحول من «الحقيقة» إلى «نسختها..».
لا شيء غير العواطف الباكية تعبّر عن ردّ فعل حي، أمام «صنّاع الموت» من أجل السلطة. كل الأموال تنزف ليستمر نزيف دموي لا يكاد يوقفه شيء. رعب يهدد صانعيه فيزدادون توحشاً.
هل أصبح السؤال: كيف سنتعايش مع التوحش؟ بعد أن صارت النجاة أو توقيف التوحش «حلما عصياً»؟
ــــ 2 ــــ
في زمن المذابح تتغيّر القناعات والمواقع ويتفكك التماسك النظري أمام متاهة التعاطف واستقطاب مع من ستتعاطف في الأطراف المتصارعة: الأنظمة أم آكليها؟ السحرة أم السحر الذي انقلب عليها؟
الضحايا المدنيون بلا كيانات كبيرة تصنع منهم أيقونات وجودها، ولذلك ليس لهم إلا اللوعة ودهشة ستيفن أوبراين مدير العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة عند زيارته لدمشق.
أميركا لم تحدد كيف تتعرف على طريقة حمايتها للإسلاميين المعتدلين/ كيف تكتشفهم لتضرب طائراتها دفاعاً عنهم؟ لماذا لا يدافع أحد عن المدنيين الذي يقتلون من دون رايات؟
أردوغان في غاراته كان مفضوحاً وهو يضرب مدنيين أكراداً، تحت غطاء حربه على «داعش».. ولم يجد ما يخجله ولا يخجل شركاؤه في «التحالف ضد الإرهاب» من دعم ميليشيات تمارس هوايتها في إقامة استعراض المذابح...
لا شيء بعد المذبحة سوى استقطاب يعبّر عن دوران في فراغ لا نسمع فيه إلا الصرخات والشتائم... وهذا يعني أن الحرب مستمرة من دون خطوة إيجابية في سبيل تجاوز المذبحة...
البحث عن التعاطف وحده قادنا إلى هز الرؤوس وإلغاء التفكير.. فلا الأنظمة تقام شرعيتها على المذابح/ ولا يمكن تجاوز أثر حدث دموي بغض الطرف أو النسيان أو الإنكار...
الأثر سيستمر لعنة لا تبعد بطقوس دق الطبول أو نشر المباخر أو حفلات اللطم الذي يلغي العقل ولا يبني مواقف..
البحث عن التعاطف صنعة العاجزين أو تجارة الكوارث... لأن التعاطف سيغيّب جزءاً من الحقيقة ويحوّل النصف الآخر إلى تعويذة لفريقه أو جمهوره الذي يريد أساساً إراحة الضمير...
هناك أيضاً جمهور كبير يخاف من الضحية، أو يصنع لها حكاية تكون فيه «عدواً» قائماً أو محتملاً.
وسأعيد السؤال رغم أنه رفاهية أمام الدم: هل يمكن أن تبنى المواقف حول منطق آخر غير التعاطف؟ مثلاً: عدم تكرار هذا المشهد/ المذبحة.... وعدم الوقوع مرة أخرى في موقع المتفرج على حرب بين «قاتلين» والحياة فترات تحت وقع «طرطشة الدم»..؟
هل هذه رفاهية في ظل حرب الضباع التي ترتاح أطرافها بتمديدها وإمدادها بالمال والسلاح والتطاحن الشعاراتي حول «من الأكثر نبلاً في القتل» ومن يحتكر الصواب والحقيقة والدولة؟
سيهتم الإخوان أكثر من أي شيء بتحويل «رابعة» إلى «كربلاء» تبعث وجودهم كل ذكرى، وسيحافظ «داعش» على إيقاع استعراضاته، ويشوهها كل مرة بدراما جديدة، وسيبقى التباس استمرار زهران علوش وقتل المدنيين في حرب النظام لاستعادة الدولة.. كل هذه العناصر لا تبشّر بنهاية ولو كارثية... تبشّر فقط بتمديد التوحش.
وهذا طور لا يحتمل من القسوة.
ــــ 3 ــــ
جمهور الفرجة سيضجر بعد قليل من الدموع ويدخل في اللعبة.
سينحاز إلى التهام الجسم المدني باعتباره الضحية التي تنقذ «حشود الفرجة» من الدم..
فما دام القتل استعراضاً وكل فرد في حشود الفرجة معزول في «بالونته»؛ يبحث عن مكان رطب لفرجة مؤثرة، سيمتد ذلك التوحش ويمتد، مغادراً كل جماليات العنف (التي وصلت مع «داعش» إلى منتهاها) أو مبررات وجوده كأداة اكتشاف للوحش الكامن فينا من فرط التواطؤ مع الفساد والاستبداد والابتزاز باسم الدين أو الوطن.
لم نكن متسامحين حين كانت الأجهزة والمافياوات السلطوية تدلدل أقدامها على مصائرنا، كنا في تواطؤ مفرط ولهذا تمر المذابح الآن كشريط إعلانات مثير للعواطف قبل النوم... حيث نحلم بأن ما نعيشه هو فيلم طويل قارب على نهايته.