ربما هو العشق، أو إنها أمور وسلوكيات متجذرة في الذات الإنسانية لا يمكن مقاومتها، هي الحال التي أعيشها في زيارة المدن، فما إن تطأ قدماي شوارع هذه الناحية أو ذلك القضاء حتى أتيقن بأنها أحلى وأغلى ما وقعت عليه عيناي، لكن سرعان ما يزول ذلك الشعور حين ترزم حقائب السفر باتجاه فاتنة أخرى من جميلات مدن بلادي، وما هو إلا برهان قاطع لخصوصيات كل مدينة، فهي كالكائن البشري تتصابى وتشيخ، وتحزن وتفرح، تتذكر وتتناسى، وتجود وتبخل، ويحزنها العوز، ويسعدها الثراء فتجدها مترفة بعمرانها حالها حال أي إنسان، وقضاء الشطرة في محافظة ذي قار من بين تلك المدن التي لها خصوصية وتميّز من بين مدن العراق، ولست مغاليا إن قلت ذلك لأني سأذكر وبالدليل شواهد ذلك التميّز الذي فرضته عروس الفرات.
مدينة الفن والشعر
تميّزت بالاسم على الرغم من منافسة قضاء قلعة صالح في ميسان لها في التسمية بعد أن كانت تسمى بشطرة العمارة، لكن غاب الاسم عن القلعة وبقي لصيقاً لشطرة ذي قار، ما ان تدخل بوابة تلك المدينة، حتى يراقص جميع جوارحك صوت وليدها بلبل الجنوب الراحل داخل حسن وهو يصيح بكل ألم الجنوب مترجما حسرات أهله: (ياطبيب اصواب دلالي كلف.. لا تلجمه بحطة السمّاعة.. بعد دكات الكلب ما تنعرف.. تنكطع ما بين ساعة وساعة) كيف لا وهو المولود فيها عام 1909، ومنها ايضا حضيري أبو عزيز وصباح السهل، وما ان تستمر خطواتك بمسيرة الذاكرة حتى يأتيك صوت التحدي الذي تتميز به لؤلؤة النهر بصوت ولدها الشاعر الراحل زامل سعيد فتاح: (حيل اسحن بروحي سحن.. ما كولن أحا وأون.. يالليل صدك ما أطخلك راس وأشكيلك حزن..) ويعضده صوت ابن قلعة سكر وشاعرنا الكبير عريان السيد خلف وهو يتحدث ويتحدى بلسانها تقلبات الزمن عليها قائلا: (لا غرني المدح.. بشفاف المحبين.. ولا هـمني الشماته اشما حجوا عني.. يلتمٌن علــيه.. امشتتات البال.. وانفضهن نفض وانهض ولا جنــي)، وفي المسرح أسماء كثيرة وكبيرة ستفرض وجودها على الذاكرة وأنت تلقي التحية على غرافها، وكيف لا وان حكاية المدينة مع المسرح تبدأ منذ ثلاثينيات القرن الماضي مع تأسيس أول فرقة مسرحية مؤلفة من الطلبة والأهالي بقيادة الفنان جهاد عباس عام 1933.
بداية التأسيس والتسمية
الباحث والفنان التشكيلي حسين الهلالي بيَّن في دراسة قبل رحيله ان مدينة الشطرة أطلق عليها لقب "عروس الفرات"من قبل حاكم الشطرة الانكليزي برترام توماس، أما التسمية فهو شطرها من قبل الغراف الى قسمين، مبينا ان المدينة تقع في السهل الذي كان مغمرا بالمياه في العهود السومرية القديمة، وقد انتقلت ثلاث مرات في المنطقة إلى ان استقرت في موقعها الحالي، ففي المرة الأولى كانت تقع على نهر الشاهينية وسميت بالشاهينية نسبة للأمير عمران بن شاهين، ولكنها اضمحلت في العام 1787، ثم انتقلت إلى موقع آخر على نهر الخليلية وبنيت على فسحة كبيرة منه بأمر من أميرها الشيخ حسن السنجري الذي أشار عليهم إن ابنوا هنا في هذه "الشترة" أي القسم المتشطر في هذا المكان، وهذا الموقع يبعد عن مكانها الحالي كيلومترين وسميت الشطرة القديمة، وبعد ذلك انتقلت إلى موقعها الحالي عندما بنى التاجر العراقي نعوم سركيس وكيل المنتفك خانين لخزن الحبوب وبعض الحوانيت قريبة من ضفة النهر أو على جهة متشطرة منه، وأهداها إلى كبار شخصيات الشطرة الساكنين في الشطرة القديمة كإغراء لهم لكي ينتقلوا إلى هذا المكان فانتقلت جموع منهم كما يقول الهلالي.
مضيفا: "بعد ذلك تم انتقال الجميع بموافقة الشيخ حسن السنجري إلى موقع الشطرة الحالي التي أصبحت اليوم مدينة يضرب بها المثل كرافد إبداعي للأدب والفن والإعلام، ويكفيها فخرا ان ابنها البار في عالم الاعلام شهيد الصحافة العراقية ونقيبها الراحل شهاب التميمي".
طور غنائي خاص
يشير الهلالي الى أن الشطرة تبعد عن مدينة الناصرية 45 كيلومتراً و65 جنوبا عن مدينة أور الأثرية، وكلما تقدمنا من الناصرية باتجاه الشطرة شمالا ارتفعت الأرض تدريجيا عن مدينة الناصرية، لذا نرى هواءها يختلف عن هواء الناصرية نسبيا فهو يميل إلى البرودة وقليل الرطوبة، ويقدر الجيولوجيون هذا الارتفاع بثلاثين متراً بين المدينتين بحسب قول الهلالي، ومن معالمها مسرح مدينة النهضة حيث باكورة الحركة المسرحية في المدينة، وكانت ثلاثينيات القرن الماضي الانطلاقة من أول فرقة مسرحية ترأسها المربي جهاد عباس وعضوية كل من "رسول عبيد الشناوه وجبر هداد، داخل حبيب، ونعيم الملقب بالقرد، كانت تقدم عروضها في ديوانية عبيد شناوه عصراً عندما يكون الديوان فارغاً لقاء أجر قدره (عانة)، عرفت الشطرة بإنتاج العنبر وفيها صناعة محلية بسيطة مثل صناعة العقال فضلا عن صناعة الخفاف، ولكن شهرتها الفنية بالشعر والغناء كانت لها صداها حتى أطلق اسمها على طور من أطوار الغناء وهو طور الشطراوي.
ويذكر أحمد المختار أستاذ الموسيقى في جامعة لندن ان طور الشطراوي المنسوب الى قضاء الشطرة من الأطوار الجميلة جداً وغناه مطربون كبار أمثال حضيري ابو عزيز وناصر حكيم وجبار ونيسة وشهيد كريم وسعدي البياتي ومطربون كثيرون كما يقول المختار.
مقهى الحاج عبيد
الشطرة المدينة والمقهى متلازمان كتوأم لا يفترق أبدا، وإنها تنتشر بكثرة وميزتها عن غيرها هي الطبقية فهناك مقهى للشيوعيين وآخر للبعثيين وواحد للمتدينين ومقهى للسائقين، أما المقهى الذي يحتضن الجميع فهو مقهى الحاج عبيد الذي يقول عنه الصحفي صفاء الغزي إنه أحد أهم الأماكن الجاذبة للثقافة والفن والتاريخ ويعد أيضا بمثابة بيت القصب لعموم عشائر الشطرة فضلا عن أنه في بعض الأحيان يكون مدرجا للرياضيين ومدارا لنقاشاتهم الحادة، فمقهى عبيد في الشطرة يختلف عن باقي المقاهي فهذا الحيز لم ينفرد بشريحة أو طبقة عمرية معينة فلا يمكن لمرتاد هذا المقهى أن ينسبه إلى تخصص معين.
ويبين الغزي في تصريحات إعلامية ان المقهى الذي أنشئ في أربعينيات القرن الماضي صورة مصغرة للمدن المتفقة اجتماعيا، فترى الزي العشائري وزي ابن المدينة، لكل من هذه الشرائح مكان في هذا المقهى، وبحسب ما ذكر علي هاشم أحد رواد المقهى، بأن هذا المكان هو الوحيد الذي يجمع جميع أطياف المدينة، فهناك جناح للمثقفين والأدباء والفنانين وجناح آخر لتجمع شيوخ العشائر فضلا عن جناح المعلمين وجناح أصحاب المهن وعمال البناء.
وفي الموضوع نفسه قال الفنان التشكيلي كاظم جبار: إن له العديد من الذكريات داخل هذا الصرح التراثي الخالد، وان المقهى يعد عنوانا بارزا ونقطة دلالة مهمة لجميع أبناء المدينة والقرى التابعة لها بالإضافة إلى شهرته التي تجاوزت حدود المحافظة.
الزعيم ونصب الشعلة
شكَّل أهالي الشطرة في العام 1958وفداً لزيارة الزعيم عبد الكريم قاسم لمباركته على الثورة وأثناء اللقاء كما يقول المؤرخ غسان شلاش، ناشدوه حينها بإقامة نصب للحرية في مدينتهم، وأوضح شلاش ان الزعيم وافق على تشييد نصب في الشطرة وكلف الفنان خالد الرحال بتصميمه، مؤكدا أن حي الشعلة المعروف في المدينة حاليا أخذ اسمه من النصب الذي مثل حقبة من المد الوطني والسياسي لقضاء الشطرة، وان النصب شيّد بالفعل في نفس عام الثورة، لكنه هدم من قبل البعثيين بعد انتفاضة العام 1991 وألقيت تحفة الرحال في نهر خارج المدينة، لكن العام الماضي قام رجل الأعمال عبد الأمير حسن تعيبان كما ذكرت العديد من وسائل الإعلام بانتشال النصب وإعادته الى الموقع الذي يستحق وسط مدينة ألعاب المدينة، وعدّ العديد من المعنيين بأن نصب الرحال يؤرخ لخمسة عقود من تاريخ المدينة السياسي والجهادي، وكيف لا وهي المدينة التي وصفت بـ"موسكو الصغرى" لنشاط أبناء تلك المدينة وكفاحهم ضمن الحزب الشيوعي العراقي ابان الاحتلال البريطاني وما تلته من حقب زمنية، وهو دليل على علمانية المدينة وعلو شأنها في روافد الأدب والسياسة والفن والإعلام.
فاجعة بنات الشطرة
فـي يــــوم الجمعـة المصادف 28/12/1962 انطلقت سيارة خشبية من نوع (فولفو) وعلى متنها أكثر من خمسين طالبة ومعلمة من مدرسة "العفة" للبنات في قضاء الشطرة متجهة كسفرة لطلبتها صوب بساتين النخيل في ناحية كرمة بني سعيد التابعة لسوق الشيوخ، كانت زغاريد البنات وأهازيجهن تصدح كما يقول المؤرخ غسان شلاش: (هذا سايقنه الورد هسه يوصلنه ويرد..للكرمة الحكك.. لا تكوول انه انساك). ووصلت الى قضاء سوق الشيوخ في الساعة التاسعة والنصف، وواصلت طريقها الى الجسر الخشبي القديم والمسمى جسر البطاط، والذي كتبت على بدايته لوحة (انتظر إشارة العبور. الجسر يتحمل طنا واحدا فقط). أي كان يجب نزول الحمولة وكان يجب أن ينتظر كل سائق دوره في العبور لكي يعطى إشارة من قبل المشرف الموجود في الضفة الأخرى من الجسر والذي فعلا أعطى إشارة للسائق بالرجوع الى الخلف والتوقف لكن دون جدوى، حيث سقطت الحافلة وسط الفرات ليبتلعها هي ومن فيها، على الرغم من موقف أهالي سوق الشيوخ الذين استطاعوا إنقاذ من لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة الذين كانوا شهودا على يوم أسود حزين لم يفصله سوى شهرين عن انقلاب شباط الأسود.
الموقف الذي نريد
على الرغم من فجيعة أهالي الشطرة بالكارثة، سارع أهالي الضحايا الى التنازل عن كل حق لهم عند السائق الذي كان من ضمن الناجين، بعد ان كان تعاطف العراقيين كشعب واحد هوّن عليهم حجم المصيبة، حيث استقبلت المدينة المفجوعة وفودا من الحكومة وكنائس بغداد وزعيم طائفة الصابئة المندائيين وممثل زعماء الكرد في الشمال مع وفود من الدليم والغربية كما يقول شلاش، ووفد من شيوخ ربيعة والجبور وقد تم تسليم رسالة تعزية من الزعيم عبد الكريم قاسم، وقد ظهرت الصحافة العراقية متشحة بالسواد وعشرات الصور للمأساة.
ويقول شلاش إن المسيحيين كرابيت وشمعون وداود وغازي الذين يسكنون المدينة أغلقوا محال بيع الخمور لستة أشهر، كذلك لبس الغجر الذين كانوا يخيمون في ضواحي الشطرة السواد وتوقفوا عن ممارسة أعمالهم في الرقص وإقامة الحفلات، ذلك الموقف ما أحوجنا اليوم إليه ونحن نرى ان فاجعة خان بني سعد مرت وسط العيد على البعض، وكأن الضحايا من كوكب آخر وما هم من أبناء جلدتنا.