ترتفع عقيرة من يسمون أنفسهم علماء المسلمين بالويل والثبور كلما إقترب شخص لما يعتبرونه مقدسا، ربما كان عمر بن الخطاب على حق عندما أمر بقطع “شجرة العقبة” قبل أن تتحول الى وثن يقدسه العوام، وتلك فى رأيى أولى وأهم من بئر ماء تفجّر تحت أقدام طفل فى صحراء مكة فهى رمز للعقيدة والنصرة للرسول، وتذكر المصادر التاريخية أن البئر قد إندثر لقرون طويلة حتى أعاد حفره عبد المطلب “جد الرسول”، وتتناقل كتب السيرة والتفاسير مجموعة كبيرة من الأحاديث عن الرسول حول أن ماء زمزم مباركا وأنه شراب وطعام ودواء وأشهر تلك الأحاديث المنقولة قوله ” ماء زمزم لما شرب له” وزاد البعض على الحديث أسباب متنوعة للشرب وهذا الحديث ضعّفه بعض السابقين كالنووى وقال آخرين بأنه حديث موضوع، والذين ضعّفوه بناءا على أن الذى نقله هو “عبد الله بن المؤمل” المعروف بضعفه عند المحدثين وعلماء الرجال.
وآ
داب لشرب ماء زمزم كإستقبال الكعبة ثم التسمية فالتنفس ثلاثا والتضلع منه “أى الشرب بكثرة” ثم حمد الله على أن يتم شرب الماء جلوسا، وإعتبر البعض أن هذا البئر ينبع من الجنة، ليست القضية فى أنه مباركا أو طريقة شرب مائه ولكن المشكلة فى مدى صلاحية هذا الماء للإستهلاك الآدمى، أذكر عند دراستى للصحة العامة فى ثمانينيات القرن الماضى أن ذكر لنا الأستاذ الدكتور “حسن متولى” فى مادة صحة البيئة أن البئر الوحيد فى العالم الذى يتم معالجته بالأشعة السينية “بعد أن ثبت تلوثه بكتريولوجيا” هو بئر زمزم بمكة وعدم إستعمال كيماويات لتطهيره كالكلور حتى لا يتم تغيير تركيبه المعدنى وتم ذلك بتدخل مباشر من حكام السعودية لإرتفاع التكلفة، فالبئر مثل غيره معرض للتلوث البكتريولوجى وارتفاع نسبة الأملاح السامة به، ومعلوم أن مياه البئر محدودة ولا تكفى المقيمين بمكة ناهيك عن ملايين الحجاج لذا قامت السلطات السعودية بإنشاء عددا من محطات التحلية من البحر الأحمر ومد أنابيب لحملها الى مكة وليس معلوما إن كان يتم خلطها بماء زمزم من عدمه، ويملأ ملايين الحجاج قوارير المياه من الصنابير المنتشرة بالحرم وخارجه على أنها مياه زمزم لحملها عند عودتهم وتوزيعها على الأهل والأصدقاء للتبرك بها والشفاء من الأمراض، ومعروف طبيا أن الطريقة الصحية لأخذ الماء يبدأ بالتأكد أن الزجاجة معقمة ثم يتم تعقيم فوهة الزجاجة قبل ملئها حتى يضمن بقاء المياه نقية ولا أعتقد أن أحدا من الحجاج يقوم بعمل ذلك ولكن كله بالبركة.
لقد نهل أهل مكة من الوثنيين والكفار من ماء زمزم وعبّوا منه كثيرا، كما شرب منه المسلمين بعد البعثة ولم يعط ذلك أفضلية لأحدهما على الآخر فى الحروب بينهما،ولا يألوا بعض المدعّين الذين يسوقون لقضية الإعجاز العلمى من الحديث عن معجزة هذا الماء فى تركيبه الذى يعالج الأسقام من عبثيات يسوقونها للبسطاء والعوام مستغلين بحثهم عن التداوى خارج وسائل الطب الحديث معتبرين أن ماء زمزم يحتوى على ما يطلقون عليه “الطاقة الحيوية” بينما تزدحم مكة وأجوارها بالمستشفيات الحديثة التى يترددون عليها للعلاج بينما بين أيديهم ذلك الماء المقدس الذى يشفى من جميع الأمراض حسب زعمهم، ويشبه ذلك ما يطلقه أنصار الديانات الأخرى كالهندوس الذين يعتبرون ماء نهر الجانج مقدسا يشفى جميع الأمراض ومن المعروف أنه من أكثر الأنهار تلوثا فى العالم، ولأن الروحانيات ليست مادة وموضوعا للعلم التجريبى ما دفع المشعوذين الى ملإ هذا الفراغ بإدعاءاتهم الزائفة كما تقول حكمة فرنسية ” إن المؤمنيين يحاولون وضع الله بين ثغور المعرفة” باعتبار أن الهيستريا والصرع سببها مس من الجن الأرضى وفى ذلك سوء أدب مع الله فمتى نتحرر من ربقة الجهل والخرافة، ذكرت عالمة الدين المستنيرة “امنة نصير” هذه الدعوات حول زمزم بقولها ” إن بعض مستجدات الحياة تعمل على تغيير طبيعة موارد الحياة ومنها المياه، وأن المشكلة تكمن فى الشيوخ الذين يتداولون ذلك خشية أن يشاع أنهم يخالفون أحاديث الرسول”، وفى المقابل ذكر أحد المشايخ علانية أنه أدى الحج عام 1992 وعندما حاول الشرب من ماء زمزم فإنه لم يستطع إكمال شربته لشدة ملوحته” وذكر أن مجموعة من الباحثين حللوا عينة من مياه زمزم فوجدوها تفوق النسبة المسموحة ب 28 ضعفا ولا ينقض ذلك من إعتبار البئر كان عذبا قبل 14 قرنا من الزمان.
ختاما فلسنا ملزمين أن نبحث عن مبررات بعيدا عن الحقائق العلمية لأوامر الله ونواهيه ولكن على المؤمن أن يقول “سمعنا وأطعنا” وليس لتطويع القرآن للعلم الحديث كما يفعل زغلول النجار مثلا بالخوض فى أسباب تلك الأوامر الربانية والسعى لإثبات صحتها وفوائدها بالعلم الحديث.