أن نشأة التيار الليبرالي العربي يمكن رصدها منذ بدايات الحركة الوطنية المصرية، ومن خلال أحزاب معروفة منذ سبعين سنة مثل (حزب الوفد) المصري، أما في اليمن فيؤكد د. الصلاحي عدم وجود أطر حزبية أو مؤسسات فكرية تتصف بالفكر الليبرالي أو تدعو إليه،
إلا أنه لا ينفي وجود اتجاهات نخبوية ليبرالية بين عدد كبير من المثقفين اليمنيين. ويرصد د. الصلاحي ملامح تلك الاتجاهات في مراحل التطور السياسي المختلفة في اليمن ابتداء من مرحلة ما قبل الاستقلال، ثم مرحلة الدولة الشطرية، ومرحلة الدولة الموحدة. فإلى نص الحوار: - (الليبرالية) كاتجاه فكري وفلسفي.. كيف يمكن توصيفه؟ ورصد ملامح بدايات ظهوره عربياً ويمنياً؟ أنا أنظر إلى (الليبرالية) بالمفهوم الأوسع، بأنها تلك الفلسفة التي تنظم حركية المجال السياسي والاجتماعي، باعتبار أن الفرد هو الوحدة الأساسية في النظام بمعزل عن مرجعياته العصبوية (القبيلة والعشرية) أوالحزبية الجديدة. والفرد هو أساس المواطنة وليس الجماعة. فالليبرالية تعتمد الفرد والمواطنة وتنظر ثالثاً إلى الوطن، وتتبلور في الواقع من خلال تعدد سياسي وتعدد جمعوي (أحزاب متعددة وأطر تنظيمية أهلية متعددة سياسية ثقافية اجتماعية..) والأصل في هذا التعدد أن يكون المرجع الرئيس لها النص القانوني الذي ينظم الحريات ولا يقيدها، وتنشأ الأحزاب والمنظمات بمجرد خبر وعلم الدولة وليس بتصريح مسبق. وتؤكد الليبرالية على الدولة القانونية، ففي ظل غياب القانون لا يمكن أن تكون هناك دولة ليبرالية، وفي الفكر الليبرالي هناك قيمة كبرى للمجتمع المدني ودعوة لتمكين المرأة في المجال العام. في هذا الإطار استطيع أن أقول أن الليبرالية الآن في الواقع اليمني يتم نشر مقولاتها وبعض محدداتها السياسية والاجتماعية دون وجود حركة ليبرالية يمنية، ومع ذلك فهناك مثقفون – وأنا واحد منهم – ينادون بفلسفة المجتمع المدني وهي في الأساس تستند إلى الفلسفة الليبرالية، لكن السائد في النشاط الحزبي اليمني والحكومي يركز على الجانب السياسي في الليبرالية (أي التعددية السياسية والانتخابات. أنا أحاول إعادة اكتشاف مزايا الليبرالية الكلاسيكية بالتركيز على البعد الاجتماعي، ومن هنا ظهر في التطور الفكري العالمي ما يسمى بالطريقتين في التنمية أي الجمع بين مزايا البعد الاجتماعي في الاشتراكية، والمحددات الاقتصادية والسياسية في الليبرالية، ومن ثم فنحن أمام فكر جديد يقبل التعدد السياسي والتنظيم الجمعوي وآلية السوق لكنه لا يغفل البعد الاجتماعي وهذه مسألة مهمة جداً لأن الليبرالية دون بعدها الاجتماعي تصبح عبارة أن آلية اقتصادية متوحشة لا تعير القيم والدين والأخلاق إلى اهتمام. - ماذا تقصد بالمفهوم الاجتماعي الجديد لليبرالية؟ أقصد أن الليبرالية كإطار لتنظيم علاقة الدولة بالمجتمع من خلال التأكيد على قيم التعدد السياسي والتعدد الثقافي والتنوع الاجتماعي، والنسبية الثقافية, أن لا تترك الليبرالية آلية السوق تتحكم في المجتمع، لأنه الاعتماد على النمط الاقتصادي يجعل من المجتمع ملحق بالسوق، ثم أن الليبرالية ببعدها الاقتصادي لا تعير اهتماماً للقيم والأخلاق، ونحن مجتمع في الأساس مرجعيته التاريخية تستند على البعد الأخلاقي والروحي. إذاً لابد من التأكيد على البعد الأخلاقي والروحي في النشاط الاقتصادي الحديث، فلا نستطيع رفض الليبرالية كآلية في السوق لأن حركة التطور العالمي تسير في هذا الاتجاه، ولكن نريد أن نجعل من آلية السوق صديقاً للمجتمع.. ولذا يجب على القوى السياسية اليمنية أن تعمل على تعزيز هذا البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية وفي الخطاب السياسي الرسمي وفي البرامج الحكومية، لأننا لسنا مجبرين على اعتماد آلية السوق كما يضعها البنك وصندوق النقد الدوليين. - كيف ترصد ملامح بدايات الاتجاه الليبرالي في العالم العربي وفي اليمن؟ الليبرالية في الوطن العربي ليست بعيدة عن تاريخنا، بالذات التاريخ المعاصر. وبداية نشأة التيار الليبرالي تلحظ منذ بدايات الحركة الوطنية المصرية وتبلورت في أحزاب معروفة منذ سبعين سنة وأبرز تجلياته في حزب الوفد وكثير من المثقفين، أما في اليمن فلا توجد أطر حزبية أو مؤسسات فكرية تتصف بالفكر الليبرالي أو تدعو إليه، وكان هناك بعض الأفراد المنادين بحركة التعبير والتعددية في الخمسينيات، حيث شهدت عدن في تلك الفترة محطة ليبرالية مرتبطة بالتطور السياسي السائد في بلد الاستعمار، وظهرت بعض المجموعات السياسية والأفراد والتوجهات الصحفية التي تطالب بالحرية والتعدد وحرية المرأة والتعليم لكن لم تتبلور في تيار سياسي واحد، ثم خفت الصوت الليبرالي خلال الدولة الشطرية، ثم ظهرت مجموعات وأفراد منذ عام 90م تدعو إلى الليبرالية. إذاً نحن أمام ثلاثة مراحل في التطور السياسي وفي تطور الدولة وتطور المجتمع المدني: مرحلة ما قبل الاستقلال، ومرحلة الدولة الشطرية، ومرحلة الدولة الموحدة، وفي المرحلة الأخيرة بدأت أصوات عديدة تطرح الفكر الليبرالي وتطالب بتعدد حزبي وتداول السلطة وبالملكية الخاصة وهي الأفكار الليبرالية الكلاسيكية. - إذن هل نستطيع القول بوجود تيارات سياسية تمثل الاتجاه الليبرالي في اليمن؟ لاتوجد تيارات سياسية تعبر عن الليبرالية لكن هناك مجموعات ضمن الحركة السياسية القائمة ينادون ببعض القيم الليبرالي، مثلاً حصل تعديل في فكر الحزب الاشتراكي وأيدلوجيته بالتحول من الملكية العامة والتخطيط المركزي إلى تقبل بعض مقولات الليبرالية، مثل اعتماد آلية السوق، وهذا تحول ملموس.. هناك أيضاً تحول في حزب الإصلاح الذي يعتمد آلية السوق وآلية التعددية الحزبية، لكن هذه المجموعات أو هؤلاء الأفراد الذين ينادون بالليبرالية كمفهوم، ينادون بها بمعزل عن جذورها الفلسفية والفكرية. أرى أن واقع المجتمع اليمني يتحرك نحو الليبرالية، ولكن لا تزال الأحزاب السياسية بتكتلاتها الثلاثة (الاشتراكي والإسلامي والقومي) تجعل من مرجعيتها التقليدية الكلاسيكية محكاً لتحديد المقولات السياسية الجديدة، فالإصلاح يبلور فكرة الليبرالية والتعددية في إطار مرجعيته أي فهمه الكلاسيكي للإسلام هو الحل، والاشتراكي لا يزال ينظر إلى الليبرالية في إطار مرجعيته التقليدية التي تجعل من الملكية العامة هي الأساس، والبعد القومي كذلك، إذاً نحن أمام أزمة في فهم الليبرالية كمفهوم وكعملية وكمنهج، أما الإطار النظري والفلسفي فهو غائب في المجتمع اليمني. - كيف تفسّر عدم ظهور حزب سياسي ليبرالي في اليمن، هل لذلك علاقة بطبيعة المجتمع مثلاً؟ في تاريخ المجتمع اليمني لا يمكن القول بظهور حركة ليبرالية في المدى القريب، لأنه خلال 16سنة الماضية لم يتبلور حزب ذو مرجعية ليبرالية، والسبب قد يرجع إلى أزمة في مسار تطور المجتمع، بسبب عدم ظهور طبقة واسعة من المثقفين من الطبقة الوسطى تعتمد الليبرالية خياراً سياسياً واقتصادياً، حتى رجال الأعمال الذين يستندون إلى الجزء الرئيسي من الليبرالية لا يهتمون ببعدها السياسي والثقافي، عكس ماكان سائداً في دول العالم وحتى في العالم العربي، في مصر مثلا، كان (طلعت حرب) رائدا من رواد الليبرالية والنظام الحر في مصر لكنه اهتم بالثقافة والاقتصاد والسياسة. إذن نحن في اليمن أمام نشاط فردي أو مجموعات من المثقفين تدعو أو ترغب في نشر الثقافة الليبرالية في اليمن من خلال مقولاتها السياسية والثقافية والفكرية والتنظيمية، لكن واقع المجتمع لم يستوعب بعد. - هل نتحدث عن مفهوم واحد لليبرالية أم أن هناك (ليبراليات) أو تطبيقات متعددة لهذا الاتجاه؟ هناك كثير من الصراع والنقد لهذا الاتجاه، وهناك كثير من المثقفين الغربيين الذين رأوا أنه مع انهيار الاشتراكية انتهى التاريخ، وأصبحت الليبرالية والرأسمالية هي أعلى مراحل التطور التي وصل إليها العالم، وهذه رؤية خاطئة. كما أن هناك صيغ متعددة لليبرالية والرأسمالية، فالرأسمالية اليابانية والرأسمالية في هونغ كونغ وفي النمور الآسيوية ليست هي ذاتها الرأسمالية المنتشرة في المجتمع الأمريكي. لأن الثقافة التاريخية التي تشكل عماد المجتمع الشرقي الآسيوي استطاعت أن تضفي بعض ملامحها على النموذج الليبرالي المستعار من التطور الغربي. ومن هنا فالليبرالية في اليابان ليست هي نفسها الموجودة في أمريكا، والفردية المطلقة غائبة في المجتمع الشرقي، لأننا نعتمد على الأسرة كوحدة اجتماعية وليس على الفرد، ومع ذلك فهناك بعض المرتكزات الثابتة لدى الجميع، مثل: الإيمان بدولة القانون وبالتنظيم السياسي والتعدد الحزبي والتنظيم الجمعوي وحرية الصحافة وحرية التعبير وحرية التدين والمعتقد. - برأيك.. هل (الإسلاميون والقوميون) هما العدوان الأبرز لليبرالية؟ - هذا غير صحيح، فالإسلاميون في اليمن وفي المنطقة العربية من أكثر الناس اعتماداً للكثير من المحددات الليبرالية، وأعتقد أن المشروع السياسي الذي تتبناه جماعة الأخوان المسلمين في مصر وحزب الإصلاح في اليمن هو ذات المشروع الليبرالي القائم الآن من حيث الالتزام بالديمقراطية والتعدد السياسي والحزبي واعتماد آلية السوق والملكية الخاصة، لكنهم لا يريدون أعمال الفكر السياسي في البعد الاجتماعي الذي كان إحدى مزايا الفكر الاشتراكي، والتياران القومي والإسلامي قد يناهضان الليبرالية لأن الآخر الذي جاءت منه فكرة الليبرالية استعمرنا ذات مرة ولأنه يحاول أن يسيء إلى واقعنا وتاريخنا. على مستوى الأحزاب اليمنية أرى أن (الإصلاح والاشتراكي والناصري) أكثر من يقبل الفكر الليبرالي، بدليل قبولهم للتعددية الحزبية والديمقراطية، لكن الإسلاميين والقوميين يمارسون نمطاً من الفكر الانتهازي في التعامل مع قضايا الحداثة بشكل عام، فيختارون أجزاء من الديمقراطية، وأجزاء من الليبرالية، ويقبلون بالتعددية الحزبية والديمقراطية بمعزل عن جذورها الفلسفية. - هناك من يربط الليبرالية بالعلمانية، وهنا مصدر التخوف خصوصاً لدى التيارات الإسلامية؟ هذا صحيح، فهناك بعض المثقفين من يرى بأن الليبرالية والديمقراطية والعلمانية نتاج مجتمع واحد لكن ليس هناك ارتباط عضوي بينها، بمعنى أنه لا يمكن قبول الليبرالية إلا بالعلمانية، ثانياً هناك مفهوم آخر للعلمانية، بعيد عن المستوى اللاديني وهذا خاص بالتجربة الغربية وليس بالضرورة أن نقلدهم، ومستوى آخر تعني العلمانية فيه (الاهتمام بالعلم والجانب الدنيوي أكثر من إبراز خصوصيته للمؤسسات الدينية لا إقصائها)، فكثير من المفكرين (الإسلاميين) مثل جمال البنا يعتبر الإسلام دينا علمانيا بتركيزه على العقل وعلى الاستخلاف، ونحن لم نمر بمرحلة إصلاح ديني حتى نبرز العلمانية كقيمة، ولا توجد عندنا مؤسسة دينية تسيطر على الدولة والسياسة. ومع ذلك أعتقد أن الليبرالية والديمقراطية ليستا مرتبطتان بالضرورة بالعلمانية ونستطيع الاستفادة من الليبرالية والديمقراطية في إطار مرجعيتنا باعتماد العقلانية التي تقرها كل الأديان. - ماذا تتوقع لمستقبل الليبرالية في مجتمع محافظ كالمجتمع اليمني؟ لا نستطيع القول أن الليبرالية ستنجح في اليمن، حتى لو ظهرت أحزاب تنادي بها، لأن انتشار الأمية والثقافة التقليدية وعدم وجود تقاليد راسخة في الأحزاب، وعدم وجود تنشئة سياسية داخلية في المدارس والجامعات تجعل من نجاحها في المدى القريب صعبا، وربما تبرز في العشرين سنة القادمة تكتلات أو تنشأ أحزاب على هذا الأساس في المرحلة القادمة، لكنها تحتاج لمزيد من الوقت حتى تتجاوز معوقات الأمية والقبيلة والموروث التاريخي