تناقشت مع أصدقاء مقربين في جلستنا الأسبوعية حول موضوع العدوانية وأشكالها المفرطة التي نراها بإزدياد في مجتمعنا في العراق، وذُكرت وقائع عديدة تقشعر لها الأبدان فمن أراد تسميم رئيسه في الدائرة لمجرد تفقد الرئيس لثلاجة القسم وإكتشافه أن الموظفين قد تركوا مكاتبهم لفترة الغداء وأطالوا وتبضعوا في مناطق بعيدة،
ومن أراد حرق دار جاره بالبنزين لأنه تأخر في سداد ما عليه من وعد ودين، ومن أمثلة كثيرة على الفصل العشائري الجائر والمفرط بأي مقياس من المقاييس وتسائلنا عمَا وراء هذه الظواهر الغريبة وهل هي محدودة أو عامة تطال جميع أفراد مجتمعنا، ثم مالعلاج ومن هو المسؤول وهل نستطيع تحميل شخصا واحدا أعباء الإصلاح حتى لو كان رئيسا للحكومه؟ ومما أثار المزيد من الفضول هو ثقافة العديد من الذين إرتكبوا هذه الأعتداءات، فمنهم الكثيرين من حملة الشهادات العليا والمبعوثين للخارج لكنهم من الذين ساهموا في عمليات مشينة مثل السحل والقتل للعائلة المالكة السابقة والإعتداءات على الأعراض والممتلكات وغيرها.
وبالمقارنة مع ما يحدث هذه الأيام في محيطنا الكندي والأمريكي فلا يخلو المجتمع هنا من أعمال رهيبة كقتل الأبناء والآباء وأطفال المدارس وجميعها تنم عن شخصيات مضطربة وأمراض نفسية، لكن الشرطة المحايدة والعدالة العمياء تقفان بالمرصاد ووسائل الإعلام لا تألو جهدا في الكشف عن غموض الجرائم وعموما يحصل هذا بدون تسييس أو خشية من عقاب.
وفي سياق موضوعنا نتسائل إذا كانت العدوانية لدينا شبيهة بما في المجتمعات الغربية، أي أنها تأتي نتيجة لأمراض نفسية وظروف فردية، أم أنها تختلف وتنتج عن أخلاقيات ونواقص إجتماعية. نجد أن المقارنة تؤدي إلى أستنتاج بأن العدوانية لدينا هي نتيجة لأخلاقيات وظروف إجتماعية، علما بأن الإختلاط بالمجتمعات الغربية التي تمنع الفرد منا من هذه الممارسات لم تؤدي إلى زوال الممارسات حين عودتنا إلى الوطن وهذا يعني أن شيئا ما في المجتمعات الأخرى يمنع تفشي العدوانية وهذا الشئ مفقود في مجتمعاتنا، والخلاصة هي أن عدوانيتنا لها مسببات إجتماعية وليست نفسية بالدرجة الأولى وعلاجها ليس على المستوى الفردي، أي ليس بالتعليم أوبالإلتزام الديني أو الأخلاقي أو بالعلاج النفساني، وإنما بالتغيير الهيكلي وبتفعيل المؤسسات والإبتعاد عن تسييس الشؤون الإدارية والقضاء على الفساد.
لا شك أن أخلاقيات البادية المترسبة من عصور خلت والمتمثلة في غياب مؤسسات العدالة والمحاسبة والرجوع إلى العشيرة التي تسند المرء في عدوانه وغزواته توفر الأمثلة المناسبة من خلال الأشعار والأساطير للتصرفات العدوانية، لكن توفير قصص البطولة ليس كمنع العقاب وإلغاء الردع وتعطيل العدالة.
وبالتحديد نجد أن آلية الردع للقوانين والعدالة المعصوبة العينين التي لا تفرق بين مجرم مقرب لذوي النفوذ وآخر بعيد هما الغائبتين الأساسيتين في تفشي العدوانية ، وأن ما أدى إلى غيابهما هو الإنتقائية في العدالة. من المحزن أن نرى العديد من المتنفذين الذين يرغبون في تطبيق العدالة ولكن على من يرونهم أعداء لهم وليس على شركائهم، وهم يعتقدون بأن تسييس القضاء والإنتقائية هما من ضروريات السياسة وشطارة مبررة أو مفروضة جورا عليهم من قبل المحاصصة، ونحن نرى أن الإنتقائية وغياب محاسبة المسؤولين لدرجة غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث تلغي آلية الردع للقوانين وتهدد كيان الدولة وتفسح المجال أمام أخلاقيات البادية وتفشي العدوانية لتأخذ حيزا كان محتكرا لمؤسسات الدولة، لذى فأول ما ينبغي عمله هو تفعيل المساواة وإرجاع الهيبة للقضاء المفقود في العراق.