Thursday, March 29. 2012
يقيني أن مبادئ التنوير لا يمكن أن تزدهر أو تشيع في مناخ فكري سياسي اجتماعي تهيمن عليه دولة تسلطية, سواء كانت تعتمد علي حكم الفرد الذي سرعان ما يتحول إلي ديكتاتور, مهما كانت نواياه الفردية, أو سلامة طويته الوطنية.
وحكم الفرد الواحد الذي تتراوح صفاته ما بين الزعيم أو الرئيس أو القائد الملهم لا يفترق كثيرا عن حكم الرئيس في دولة رئاسية, أو الملك في دولة ملكية, أو الأمير في إمارة, ما ظل نظام الحكم ديكتاتوريا, وما ظلت الدولة تسلطية. والدولة التسلطية هي الدولة التي تحتكر السلطة والقوة في المجتمع دون سند شرعي, حتي لو كان هذا السند انتخابات مزيفة أو موجهة, لا تمثل تمثيلا حقيقيا اختلاف فئات المجتمع وطبقاته وطوائفه. ويستوي في معني الدولة التسلطية أن يكون علي رأسها عسكر, يقومون بانقلاب علي حكم قائم, كما حدث في يوليو1952, أو يدعون حماية ثورة شعبية علي حكم فاسد, كما في حالة ثورة25 يناير, أو يفرض حاكم مدني نفسه مدعوما بقوة القبيلة, أو العشيرة, أو الطائفة, مستعينا بنخبة تتبادل وإياه المصالح والمكاسب علي حساب الشعب الذي يظل محكوما بالقوة التي تسلبه الحرية بكل أوجهها ومجالاتها السياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعية. ولا فارق في انطباق معني التسلطية علي الدولة القائمة علي القوة واحتكار الثروة في المجتمع باسم مبدأ سياسي أو مبدأ ديني, فالدولة العسكرية لا تختلف عن الدولة الدينية في صفة التسلط التي هي نقيض فكر الاستنارة, والسبب في وجوده في آن, بوصفه سبيلا حيويا لمواجهة الاستبداد, وسلاحا فعالا في القضاء علي الظلم الاجتماعي والفساد السياسي.
وقد عانت مصر, ولا تزال, من تسلطية الدولة القومية التي بدأت بحكم عسكر يوليو1952, وسقوط آخر حاكم ينتسب للعسكر في25 يناير2011. ويبدو أن المقدور عليها هو أن تعاني من آثار العسكر الذين أسلموا تسلطية الدولة إلي جماعات الإسلام السياسي بواسطة انتخابات موجهة لا تمثل تمثيلا أمينا كل فئات المجتمع وطوائفه رجالا أو نساء, فوضعوا مصر كلها أمام احتمالات بالغة الخطورة لا يعلم مداها إلا الله. وهو وضع يستدعي الأسف علي الاحتمالات الإيجابية التي أضاعها النظام الناصري عندما استبدل بالتعددية الحزبية ديكتاتورية الحزب الواحد الذي امتلأ بالانتهازيين الذين لا ولاء لهم إلا لمصالحهم الخاصة. وهي الاحتمالات نفسها التي أضاعها النظام الساداتي الذي أعلن بدء التعددية السياسية, لكن علي مستوي المظهر لا الجوهر, في موازاة تحالفه مع جماعات الإسلام السياسي, وكانت النتيجة استمرار الدولة التسلطية بحاكم ديكتاتور, حرص حلفاؤه( الذين انقلبوا عليه) علي اغتياله وهو في حلته العسكرية. وخلف السادات مبارك العسكري الذي وصلت الدولة التسلطية في أعوام حكمه الثلاثين, إلي درجة من الفساد لا مثيل لها. ولقد آثر عند رحيله أن يترك السلطة بين أيدي المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي أوصل جماعات الإسلام السياسي إلي السيطرة علي مجلسي الشعب والشوري. وها نحن نضرب أخماسا في أسداس. لا نعرف ما الذي يأتي به الغد, خصوصا بعد أن آثر الإخوان والسلفيون في البرلمان والشوري المغالبة لا المشاركة في اختيار اللجنة التأسيسية للدستور التي تؤذن بما نرجو أن يكون خيره أكثر من شره.
أما عن التنوير المقترن بالأفكار الليبرالية أو اليسارية فقد ازور عنه السادات في تحالفه مع الجماعات الإسلامية الإخوانية, وكان من نتائج ذلك تصاعد الفتنة الطائفية التي جسدتها أحداث الزاوية الحمراء, في سياق أدي إلي فصل العديد من أساتذة الجامعات, وكنت واحدا من هؤلاء. ولم نفصل لأننا أسهمنا في إحداث الفتنة الطائفية, بل لأننا كنا معارضين لسياسات السادات الظالمة للشعب, المتصالحة مع العدو الصهيوني. وعندما جاءت دولة مبارك أطلقت سراح من سجنهم السادات من رموز المعارضة لسياساته التسلطية, وحدثت مصالحة وطنية, وحاولت دولة مبارك أن تجعل من التنوير واجهة تختفي وراءها حينا, أو تجمل بها قبحها في أغلب الأحيان, ولذلك استعانت بدعاة الاستنارة. لكنها ظلت علي عداء مع مبادئ العدالة والحرية الكاملة, فكانت ظاهرا تدعي دعم فكر الاستنارة, لكن بوصفه مجرد ديكور زخرفي في مواجهة مد الإسلام السياسي. وهو وضع جعل الفكر التنويري واقعا بين مطرقة جماعات التأسلم السياسي من ناحية, ومطرقة الدولة التسلطية من ناحية مقابلة, ولذلك لم يكن هناك مفر من أن يظل فكر التنوير فوقيا محروما من أجهزة إعلام توصله إلي الجماهير, لولا استثناءات إبداعية تمثلت في مسلسلات أسامة أنور عكاشة وأشعار عبد الرحمن الأبنودي. أضف إلي ذلك ما ارتكبه الحزب الوطني من جرائم إجهاض الأحزاب القائمة( الوفد, التجمع, الغد..إلخ), وهو الأمر الذي أفقدها الفاعلية في الوصول إلي الجماهير الأمية التي تصل إلي ما قد يزيد علي40% من مجموع سكان مصر. وبدا أن انحدار التعليم كان أمرا مقصودا منذ أن كان فتحي سرور وزيرا للتعليم, وسمح باختراق مجموعات الإسلام السياسي المتطرفة للتعليم, كما سمح لهم النظام السياسي باختراق القضاء الذي نأمل أن يسترد ثقة الناس, خصوصا بعد فضحية محاكمة المشرفين علي منظمات المجتمع المدني الأخيرة, وزاد الطين بلة السكوت المتآمر علي الدعم المالي الذي كان ينهمر من السعودية وقطر وغيرهما علي الجمعيات الخيرية السلفية, وتكوين أجيال وأجيال من الدعاة المعادين للدولة المدنية والداعين إلي الدولة الدينية جهارا نهارا. وكانت نتيجة زواج الثروة والسلطة في وزارة أحمد نظيف كارثة أسفرت عن ملايين من الجوعي, المحرومين من التعليم والمسكن الإنساني, الذين وجدوا في أقوال دعاة الدولة الدينية ما يخايل أحلامهم بالغذاء والمسكن والملبس, فمضوا وراءهم, حالمين بدولة دينية تملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا. وهكذا تجمعت أسباب عديدة لأن يتبع الشعب كله شرارة الثورة التي أطلقها شباب بريء, طاهر, سقط المئات منهم قتلي, لا لكي تتحقق أحلامهم, وإنما لكي تأتي قوي تسرقها منهم, وتعمل علي استئصالهم التدريجي.
وأين التنوير من ذلك كله؟! لقد ناله القمع الذي وقع علي الثوار, فلم يعد يترك تأثيرا سوي العداء الذي تواجهه به تيارات الإسلام الأصولية وشبابها, والريبة التي ينظر بها إليه مجلس عسكري, لا يعرف بحكم طبيعته العسكرية سوي إصدار الأوامر التي لابد من إطاعتها. وعاد التنوير غريبا كما بدأ, محاصرا, يتهم بأنه أفكار غربية بعيدة عن تراثنا الإسلامي, وأنه منقول عن بيئات ليست مثلنا, ولا ظروفها تشبه ظروفنا. وكلها اتهامات باطلة, فالتنوير حركة فكرية أطلقها المعممون الأزهريون وأمثالهم أولا( رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصطفي عبد الرازق وعلي عبد الرازق وعبد الرحمن الكواكبي) وتابعها الأفندية المطربشون( أحمد لطفي السيد وسعد زغلول ومحمد حسين هيكل وعباس العقاد وغيرهم). وقد أفلح هؤلاء جميعا في صياغة فكر التنوير الذي أخذته عنهم الأجيال التي لا تزال تؤمن بما صاغوا من أفكار متجانسة مع تراثهم الإسلامي, ومع أجيال العقول المسيحية المتسامحة والمنفتحة علي الآخر, والتي لا تزال تلوذ بشعار ثورة1919 الدين لله والوطن للجميع. ويبقي السؤال الجوهري هل انتهي زمن التنوير المصري( العربي) حقا؟ أعتقد جازما أنه ينهض من جديد, فالحاجة الماسة إليه هي أصل وجوده المتجدد, في استجابته لتحدي نقائضه, ولأنه سيظل متوهجا بالرفض لكل استبداد سياسي, أو تعصب ديني. وهو- من منطلق إسلامي- سيظل يرفض الحكم العسكري المقترن بدولة تسلطية بالضرورة, والفهم الحرفي ضيق الأفق للنصوص الدينية والمدنية علي السواء. وكلي ثقة أننا أحوج ما نكون إلي مبادئه في هذه الأيام العصيبة التي يتكالب عليها أعداء الحرية والعدل في الداخل والخارج.
|