قبل عشرين عاما كتبت كتابا عن الشرق الأوسط. وكنت قد شرعت مؤخرا في تحديثه (أي الكتاب) بكتابة مقدمة جديدة له. وكان من شأن تلك المقدمة أن تكون بسيطة جدا. مجرد صفحة واحدة. بل سطر واحد هو «لم يتغير شيء».
احتجت إلى يومين اثنين خلال تغطيتي للانتخابات في بيروت كي أدرك أنني كنت مخطئا تماما. فثمة شيء يحدث اليوم في الشرق الأوسط. شيء جديد وبالغ في جدته. ما أقول سيكون مثيرا.
إن ما شهدناه في الانتخابات اللبنانية التي حققت فيها حركة 14 مارس المؤيدة للغرب انتصارا مباغتا على تحالف حزب الله المناصر لإيران وما شهدناه فيما اختمر من تغيير كشفت عنه حملة الانتخابات في إيران وما شهدناه في الانتخابات الإقليمية في العراق حيث حصل الحزب الكبير المؤيد لإيران على «علقة». ان كل ذلك لهو ثمرة ونتاج لأربعة قوى تاريخية تضافرت معا لفتح الانسداد المتحجر والمزمن للمنطقة (أمام رياح التغيير). اولا، هناك انتشار وتغلغل للتكنولوجيا. فمدونات الشبكة العنكبوتية (الانترنت) وموقع اليوتيوب (لتحميل أفلام فيديو الشخصية) والرسائل النصية عبر الهواتف النقالة خصوصا في أوساط الجيل الحديث (70% من الإيرانيين هم اقل من 30 عاما) تتيح كلها للشرق الأوسط أدوات رخيصة للاتصال الافقي (من شخص إلى شخص) وللتعبئة السياسية وتوجيه نقد لاذع للمسؤولين في نطاق خارج عن سيطرة الدولة. كما أنها ايضا تمكنهم من مراقبة التلاعب بالأصوات من خلال نصب مراقبين برفقة آلات تصوير الهواتف النقالة. لقد ادركت أن شيئا قد تغير عندما جلست لتناول القهوة في شارع الحمراء في بيروت الأسبوع المنصرم مع صديقي الثمانيني كمال صليبي أحد اعظم مؤرخي لبنان والذي أحاطني علما بمجموعة (الفيس بوك) الخاصة به. وفي مساء يوم انتخابات لبنان ذهبت إلى منزل سعد الحريري (زعيم تحالف 14 مارس) في بيروت لإجراء مقابلة معه. وفي غرفة استقبال كبيرة تم وضع جهاز تلفزيون ضخم له شاشة بحجم الجدار كان ينقل النتائج. وبجانب جهاز التلفزيون الكبير نصب 16 جهازا تلفزيونيا أصغر بشاشات مسطحة تعرض خرائط الكترونية للبنان. وبدا خبراء الانتخابات التابعين للحريري عاكفين على أجهزة الحاسوب المحمول (اللابتوب) وهم يرصدون كل صوت من كل جماعة دينية قرية إثر قرية ثم يعرضون نتائج تحليلاتهم على الشاشات. ثانيا كي تحدث ممارسة حقيقة للسياسة يلزم وجود مساحة أو فضاء. هنالك ملايين الأشياء التي تثير مشاعر الكراهية والبغضاء في حروب بوش المحرفة عن أهدافها والمكلفة. ولكن الحقيقة هي أنه من خلال إقصائه صدام في العراق في عام 2003 وتعبئته الأمم المتحدة لإخراج سوريا من لبنان في عام 2005 فتح فضاء لممارسة حقيقية لديمقراطية السياسة لم تكن لتوجد في العراق أو لبنان على مدى عقود.
يقول مايكل يونج وهو محرر صفحة آراء في جريدة الديلي ستار البيروتية أن بوش «كان يحمل فكرة بسيطة في رأسه هي أن العرب بامكانهم أن يكونوا ديمقراطيين. وفي تلك اللحظة بالذات كان المطلوب افكارا بسيطة حتى إذا كان بوش مخادعا». ويضيف يونج ان تلك الفكرة «تعززت بوجود جيش الولايات المتحدة في قلب الشرق الأوسط. لقد أشاع ذلك الوجود إحساسا بأن التغيير ممكن. وان الأشياء لا يجب ان تظل كما هي». وعندما كنت ارسل تقارير صحفية من بيروت في اعوام السبعينات والثمانينات قمت بتغطية انقلابات وحروب. غير انه لم يحدث لي ابدا أن سهرت حتى وقت متأخر من الليل انتظارا لنتيجة انتخابات. فقد كانت الانتخابات في الشرق الأوسط نكتة بالمعنى الحرفي للكلمة. وكانت قد راجت وقتها حكاية عن رئيس راحل. فبعد اجراء الانتخابات (في بلده) جاء معاون له وقال «سيادة الرئيس لقد فزت بـ99.8% من الأصوات. وذلك يعني ان عُشرين من واحد في المائة فقط من الشعب لم يصوت لك. ماذا تريد أكثر من ذلك!» رد الراحل قائلا: «أريد أسماءهم». وفي المقابل فإن اللبنانيين سهروا الليل بكامله في انتظار نتائج الانتخابات. إذ لم يكن احد يعلم ماذا ستكون عليه تلك النتائج.
ثالثا، فتح فريق بوش ثغرة في جدار الاوتوقراطية العربية. ولكن أداء الفريق كان بائسا في ما وراء ذلك. وفي الفراغ الذي نشأ (جراء فتح الثغرة) فان الجماعات التي كانت افضل تنظيما للاستيلاء على السلطة هي أحزاب الاسلاميين. أي حزب الله في لبنان والقوى المؤيدة للقاعدة وسط العراقيين السنة والمجلس الإسلامي الأعلى في العراق وجيش المهدي وسط العراقيين الشيعة وطالبان في باكستان وأفغانستان وحماس في غزة. ولحسن الحظ فان كل هذه الجماعات الاسلامية أفرطت وتجاوزت الحد بفرض انماط حياة دينية او بجرجرة مجتمعاتها الى مواجهات لم تكن تريدها. تلك التصرفات أخافت وابعدت عنها التيار الرئيسي الأكثر علمانية وسط العرب والمسلمين واطلقت «صحوة» كانت بمثابة رد فعل من جانب المعتدلين من لبنان والى باكستان وإيران. وفي احد تقاريره أورد روبيرت ماكي مراسل التايمز في طهران أن هتافات «الموت لأمريكا» التي كانت تنطلق في المهرجانات التي أقيمت لنصرة محمود أحمدي نجاد في الأسبوع الماضي ردت عليها هتافات «الموت لطالبان في كابول وطهران» في مهرجان اقيم لدعم خصمه مير حسين موسوي.
رابعا وأخيرا، مجيء الرئيس باراك حسين أوباما. لقد وجدت الأنظمة العربية والإسلامية أن من المفيد جدا لها الوقوف في وجه جورج بوش. لقد (شيطنها) فريق بوش و(شيطنت) هي بدورها فريق بوش. وحصلت بعض الانظمة على القوة والشرعية من تلك المواجهة التي جعلت من السهل عليها الانتقاص من أي طرف مرتبط بأمريكا. غير أن قوة اوباما الناعمة أزالت قدرا كبيرا من تلك المواجهة. وكنتيجة لذلك لم تعد «موالاة أمريكا» شتيمة أو إساءة.
لا أعلم كيف ستكون ثمرة مزيج هذه العوامل الأربعة. القوى المعارضة للتغيير في الشرق الأوسط قوية جدا وهي لا ترحم. ولكن لأول مرة ومنذ فترة طويلة تجد قوى النزاهة والديمقراطية والتعددية أقدامها أكثر ثباتا على الأرض وذلك أفضل لها.