يثقل تورط بريطانيا في عملية غزو العراق 2003 ضميرها القومي والثقافي، بصورة أخذت أعراض مرض هذا التورط العضال تتجلى في انتاجها الأدبي والمسرحي. ليس فقط لأنها حرب استعمارية غير قانونية، تخالف الأعراف والقوانين الدولية فحسب،
بل تشكل خرقا فاضحا لها ولغيرها من القيم الإنسانية. وليس لأن الكنيسة الانجليزية ذاتها باعتبارها ممثلة القيم الدينية والأخلاقية في هذا المجتمع لم تستطع أن تصنفها على أنها حرب عادلة، وكان أقصى ما وصلت إليه وقتها أنها حرب مبررة، ولكن أيضا وأساسا لأنها الحرب التي جرت بالرغم من المعارضة الشعبية الواسعة لها، وضد كل صور التعبير الديموقراطي الحر ضدها. فقد خرجت ضدها في فبراير 2003 أضخم مظاهرة في تاريخ بريطانيا. فلم يسبق أن تظاهر أكثر من مليوني متظاهر ضد أمر من قبل، ولم يسبق أن شملت المظاهرات كل ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي كما حدث في تلك المظاهرة الشهيرة التي شارك فيها ميلوني شخص من جميع المشارب والأعمال والخلفيات الاجتماعية والثقافية. ومع هذا حدث شاركت بريطانيا في الحرب على العراق ضد تلك الإرادة الشعبية الواسعة. وهو ما ترك آثاره الدامية شعورا بالعجز والإحباط داخل هذا القطاع الواسع والواعي من الشعب البريطاني الذي يمثل خيرة الجماعة الواعية فيه من كل الشرائح والطبقات الاجتماعية.
وما ان وضعت الحرب أوزارها، حتى ازداد الأمر تفاقما، فلم تسفر الحرب عن انتصار واضح أو نهاية مرغوبة أو معقولة، بل تكشفت بالتدريج عن وجهها الكابوسي. فسرعان ما أخذت كل الدعاوى الزائفة التي تذرع بها أنصارها ومن شنوها في التهاوي واحدة وراء الأخرى. فلم يتم العثور على أي من أسلحة الدمار الشامل المزعومة، ولم يثبت أن النظام العراقي كان على علاقة مع تنظيم القاعدة، بل العكس كان ضد هذا التنظيم الذي تفشت تكويناته في الواقع العراقي بعد الغزو ولم يكن لها وجود فيه قبله. ولم تجعل الحرب حياة المواطنين في الغرب أكثر أمنا واستقرارا كما وعد قادتها ومروجوها، بل تتابعت الهجمات الإرهابية على أسبانيا ثم بريطانيا، وتآكلت معها وبسبب ذرائع الحرب على الإرهاب الكثير من حريات المواطنين الذين أصبحوا يعيشون في مجتمع مراقب، أقرب ما يكون إلى أهجية جورج أورويل الكابوسية في هذا المجال (1984). ولم تتحقق الديموقراطية في العراق كما روج من شنوها عليه، لتخليص الشعب العراقي من حكم استبدادي جائر ومنحه الحرية. بل تكشف الواقع الجديد عن كابوس فظيع يبدو معه كابوس الاستبداد أقل جهامة وأخف وطأة. بالرغم من أنه لامماراة في أن العراق ـ مثله في ذلك مثل كثير من جيرانه ممن تحالفوا مع الولايات المتحدة وبريطانيا في حربها ضده ـ كان يعاني من الفساد والاستبداد وغياب الحريات. ولم ينعم الشعب العراقي بالحرية وإنما انزلق إلى وهاد المحاصصة الفوضى والعنف الدموي وحكم الغابة في كثير من مناطق العراق.
وتمخضت الحرب عن مجموعة من النتائج المأساوية التي لم تخطر لمن شنوها على بال في أكثر كوابيسهم تشاؤما. فقد قوت الحرب عدو الغرب اللدود ـ إيران ـ ولم تضعفه. ووسعت نفوذه في العراق بالرغم من الولايات المتحدة، وضد كل استراتيجياتها هي وربيبتها الصهيونية. ولم تجلب الديموقراطية والحرية للشرق الأوسط، بل جلبت له الثيوقراطية والتطهير العرقي والمحاصصة الطائفية. ولم تجهز على الإرهاب بل غذته وزادته اشتعالا، ولم يتوقف سيل الدماء الذي بدأ منذ طلقاتها الأولى عام 2003 حتى اليوم، فقد راح ضحيتها حتى الآن أكثر من مليون عراقي، وعشرات آلاف الجنود الأمريكيين والبريطانيين بين قتيل وجريح، كما تم تشريد خمسة ملايين عراقي في أربعة أرجاء المعمورة. وأخذ هذا كله يثقل كاهل الضمير الانجليزي الذي يعزي نفسه بحرصه التاريخي على احتلال الموقع الأخلاقي الأرقى، حيث وجد نفسه في درك أخلاقي لايستطيع منه نهوضا. إلى الحد الذي شكا معه كثير من جنرالات الجيش الانجليزي وقادته من انهيار معنويات الجنود، لأنهم حتى بعد عودتهم من الجبهة العراقية لا يلقون تعاطفا من الجمهور العادي مع إنجازاتهم أو معاناتهم أو محنتهم. ولا اعترافا بتضحياتهم من أجله، وهو وهم حرصت المؤسسة العسكرية على رعايته طوال حروبها العديدة على مد تاريخها. فقد أخفقت الآلة السياسية الضخمة، وتحالف قطاعات واسعة من الإعلام الانجليزي معها في اقناع الشعب الانجليزي الذي يتسم بقدر كبير من البساطة والبراجماتية، بأن هؤلاء الجنود الذين يموتون أو يجرحون، أو يعانون في العراق يفعلون ذلك من أجله. فقد كان شعار المظاهرة المليونية الضخمة التي خرجت لمعارضة الحرب في فبراير 2003 هو لاتشنوا هذه الحرب باسمنا. وها هي المؤسسة العسكرية تشكو من أن من تتصور أنها تحارب باسمه ـ أي الإنسان العادي ـ لم تعد تنطلي عليه أكاذيبها.
وإذا كان هذا هو حال الإنسان العادي والجنود العائدين بعد أن سحبت الحكومة معظمهم، بالرغم من تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الضمير الثقافي كان أسرع تململا وأقوى تعبيرا عن الموقف الجمعي المتذمر من تلك الحرب. فقد أخذ يعبر من البداية في شتى صيغ التعبير الأدبي والفني عن رفضه للحرب، ويعري سوءاتها، ويحذر من عواقبها. ولأن موضوعي هنا هو المسرح، فلابد من الإشارة إلى أن المسرح كان من أسرع الأشكال الفنية تعبيرا عن هذا القلق والتململ. فلم يكن المسرح في حاجة إلى انتظار كتابة أعمال جديدة، وإن جاءت هذه الأعمال بعد أقل من عام من انتهاء الحرب ثم توالت بعد ذلك، وإنما لجأ بسرعة إلى كلاسيكيات المسرح الكبيرة يعيد عرضها بتأويل إخراجي لا يخطئ الجمهور دلالاته بالنسبة لحرب العراق. وقد شاهدت في السنوات القليلة الماضية العديد من تلك العروض من مسرحيات شكسبير التاريخية التي كانت تنفذ وكأن حروبها تدور في الساحة العراقية، إلى رائعة يوربيديس الشهيرة (الطرواديات أو نساء طروادة) التي قدمها المسرح القومي وكأنها تجسد اليوم معاناة نسوة العراق، بسبب حرب لاتقل عبثية عن الحرب الطروادية التي شنت بسبب أمرأة تركت زوجها لأنها وقعت في هوى شخص آخر. إلى مسرحيتى برنارد شو (القديسة جون) و(الميجر باربارا) وقد منحا تأويلات عراقية جديدة، خاصة في (الميجر باربارا) التي تبرز دور صناعة الأسلحة، والتي تحالفت مع صناعة النفط في شن تلك الحرب الجائرة على العراق. كان هذا في العامين الأولين ثم تتابعت بعدها المسرحيات التي تتناول هذه الحرب بشكل نقدي مباشر، لا في بريطانيا وحدها وإنما في الولايات المتحدة كذلك التي كانت مسرحياتها من هذا النوع تحظي بإخراج بريطاني وهي لاتزال تعرض في أمريكا. ولا أستطيع هنا أن اقدم حتى مجرد قائمة بأسماء تلك المسرحيات، دون الخروج عن موضوعي، فهي كثيرة ومتتابعة كما قلت. فمنذ عام 2005 وحتى الآن لايمضي موسم دون أن تظهر فيه عدة مسرحيات جديدة تتناول حرب العراق، لا في المسرح التجريبي أو الهامشي وحده، وإنما على خشبة المسرح القومي نفسه الذي كان أول من قاد هذه الموجة بإخراجه لريتشارد الثالث على خشبة المسرح القومي، وقد ارتدي الملك وجيشه ملابس الجنود العصرية فور تورط بريطانيا في الحرب، وبتقديمه مسرحية دافيد هير (تلك الأشياء تحدث Stuff Happens) التي مسرحت أحداث شن الحرب وكشفت عن أكاذيبها، وعرت تناقضاتها. وقد توالت تلك الأعمال حتى بلغت ذروتها في تلك الملحمة المسرحية التي تتكون من ست عشرة مسرحية قصيرة عرضت طوال شهر أبريل 2008 في أربع مسارح وهي المسرحية التي اود أن أتوقف عندها بشيء من التفصيل.