لم يبالغ المراقبون عندما عدّوا زيارة الرئيس الفرنسي الجديد ، نيكولا ساركوزي ، لواشنطن قبل أسابيع محطة انعطاف في السياسة الخارجية الفرنسية
بعد إسدال الستار على مرحلة الرئيس جاك شيراك الذي كان دائماً ما يحيا هاجس فرنسا ، ثم أوروبا، "نداً" للولايات المتحدة الأميركية لقد جاءت زيارة ساركوزي الحميمة لواشنطن في وقت بدا فيه الرئيس الأميركي ، جورج بوش ، في أمس الحاجة للتأييد والدعم الدوليين لسياسته في العراق والشرق الأوسط ، استجابة لتصاعد أصوات الاعتراض والمطالبة بسحب القوات الأميركية من العراق التي أطلقها أعضاء الكونغرس بشقيه الديمقراطي والجمهوري إن فكرة تكريس المشاركة الدولية والتأييد للوجود الأميركي في العراق غدت فكرة هاجسية عند الرئيس بوش ، الأمر الذي يبرر تشجيعه لدور فرنسي وأوروبي في العراق ، ويكشف دوافع زيارته المفاجئة إلى أستراليا ، حيث إنه يريد من رئيس الوزراء الأسترالي الحليف، إبقاء القوات الأسترالية في العراق، وحيث إنه سيفعل ذات الشئ مع منافسه الانتخابي الذي يمكن أن يفوز بالانتخابات الأسترالية القادمة من أجل اتخاذ نفس الموقف هذه الخلفية تلقي الضوء على هواجس الرئيس بوش الذي يبحث عن المشاركة والدعم الاعتباري لوجود القوات الأميركية في العراق حتى وإن جاء هذا الدعم من دولة كفرنسا ، وهي من الدول التي عارضت التدخل العسكري الأميركي في العراق عام 2003.
وعلى الرغم من أن الرئيس ساركوزي كان جزءاً من حكومة جاك شيراك، وزيراً ، فإنه كما يبدو يعول كثيراً على أنه مختلف عن رئيسه السابق ، خاصة بقدر تعلق الأمر بسياسات فرنسا والاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط ، الأمر الذي يبرر دعوته أعضاء الاتحاد الأوروبي للاضطلاع بدور أكبر في العراق هذه الدعوة يمكن أن تخدم غطاءً منطقياً ومقبولاً لمحاولة فرنسا لعب مثل هذا الدور في وقت تحتاج فيه واشنطن لأي مساعدة ومشاركة في العراق بعد تفاقم الأمور واقترابها من نقاط الفشل ، خاصة بعد التعقيدات التي تسببت بها الجمهورية الإسلامية التي لا تخفي ترشيحها نفسها كبديل لملء "فراغ القوة" الذي لابد أن يتركه الأميركان في العراق حال انسحابهم منه .
إن رغبة ساركوزي بدور فرنسي أقوى في منطقة الخليج العربي، من خلال دور مهم وتوفيقي في العراق ، تنطوي على شعور بشئ من المرارة مفاده انحسار الدور الفرنسي في أغنى منطقة منتجة وخازنة للبترول في العالم في هذه النقطة ، لا يختلف ساركوزي عن رؤساء فرنسا السابقين ، وبضمنهم جاك شيراك نفسه بيد أن الفرق هو أن شيراك أراد لهذا الدور الوثاب لإقليم النفط أن يبدو دوراً مغايراً للدور الأنكلو/أميركي ، على أمل تشكيل صورة لباريس تحتلف عن الصورة المسوقة إعلامياً للندن وواشنطن ساركوزي يريد "شراكة" وتعاونا متبادلا ، وهو لا يريد توسم صورة المنافس الندي لأميركا ، الأمر الذي يفسر أهم تحركين اضطلع بهما على المستوى الدبلوماسي حال تسنمه الرئاسة في قصر الإليزيه ، وهما: (1) زيارته لواشنطن؛ (2) ابتعاثه وزير خارجيته لبغداد.
أما زيارة وزير الخارجية الفرنسي لبغداد، فإنها لم تكن قط زيارة تقليدية من النوع البروتوكولي فقط : فقد كان الوزير الفرنسي بدرجة عالية من "الشحن" للاضطلاع بدور فرنسي "أساسي" وأنه قد تجاوز حدود اللياقة الدبلوماسية عندما طالب بمغادرة نوري المالكي رئاسة الحكومة لفتح الطريق أمام "آخرين" لاستبداله هذه "الانفعالية" المفرطة تعكس ، كما يبدو ، ما جرى في واشنطن بين الرئيس ساركوزي والرئيس بوش ، حيث الحاجة إلى الشراكة والدعم الاعتباري وحتى المادي .
إن الأضواء الساطعة التي تعكسها مرآة هذه التحركات الفرنسية الجديدة لا ينبغي أن تعمي المراقبين السياسيين عن حقائق لها أهمية خاصة حيال الدور الفرنسي الذي أسهم، بطريقة أو بأخرى، في قيادة العراق إلى ماهو عليه الآن وقد يبدو هذا تكهناً بعيد المنال، إلاّ أنه لا يفتقر إلى المبررات الموضوعية لقد شهد الاهتمام الفرنسي بالعراق تطوراً ملموساً على أعوام الستينيات، حيث أرادت فرنسا تكريس اهتمامها بالنفط العراقي، الذي تمتلك أسهماً في شركات إنتاجه آنذاك، عن طريق تقوية الأواصر ودور الشركات الفرنسية ، خاصة شركة "إيراب" ولكن دور باريس السياسي قد أخذ بعداً آخر مع تأميم عمليات الشركات النفطية الأجنبية في العراق بداية سبعينيات القرن الماضي ، حيث راهنت الحكومة العراقية على استثناء الشركات الفرنسية من التأميم على أمل شق صف الاحتكارات النفطية المساهمة في شركة نفط العراق ، وهي شركات بريطانية وهولندية وأميركية وفرنسية كان استثناء الشركات الفرنسية مهماً كخطوة في سبيل إنجاح عملية التأميم ، ولكنها لم تخلُ كذلك من فتح "آفاق" جديدة للتعاون، وهي آفاق فتحت شهية الحكومة العراقية آنذاك على طريق التسليح وأسلحة الدمار الشامل التي قادت إلى الاحتلال اليوم .
كان التطور الأهم قد حدث على مائدة "السمك المسگوف" العراقي في باريس (طار السمك الحي من بغداد إلى باريس بطائرة خاصة مع الطهاة)، حيث اتفق نائبا الرئيسين العراقي والفرنسي، صدام حسين وجاك شيراك، على تطوير مفاعل تموز بالقرب من بغداد وزيادة منشآته بالطريقة التي تثير مخاوف إسرائيل والعالم الغربي وهكذا بدأت مأساة الخوف من طموحات العراق العسكرية التي تذكرنا بالمخاوف التي تلف المنشآت النووية الإيرانية اليوم وقد بقي الخوف ملحاحاً ومعبراً عن نفسه في العديد من قصص مطاردة العلماء العراقيين وملاحقة المواد المشعة المشغلة لهذه المفاعلات ، حتى بدايات الحرب العراقية الإيرانية التي شهدت انقضاض الطائرات القاصفة الإسرائيلية على أهم مشروع، كان قد كلف العراق الملايين من الدولارات خلال بضع دقائق ، إذ سوي مفاعل تموز مع الأرض، بينما كان العراقيون يرتشفون أقداح شاي "مابعد القيلولة" في مساء يوم رهيب .
بيد أن هذه العملية الإسرائيلية المباغتة لم تثن الحكومة العراقية عن المضي قُدماً في برامجها التسليحية المثيرة لارتياب وغضب الغرب، معتمدة على فرنسا كثغرة في جدار العالم الغربي وهكذا تم تكريس التعاون بين العراق وفرنسا، متبلوراً في تسليح القوات المسلحة العراقية ببضعة أسلحة فرنسية، إلى جانب التسليح السوفيتي ، ومنها طائرات "سوبراتندر" التي أطالت الذراع الجوية العراقية بالدرجة الكافية لتدمير المنشآت النفطية الإيرانية في جزيرة "خرج" البعيدة عن الحدود العراقية كما أن "التعاون" قد تطور حد كشف أسرار الأسلحة السوفيتية للخبراء العسكريين والصناعيين الفرنسيين الذين كانوا منذ سبعينيات القرن العشرين، يتجولون عبر الوحدات العسكرية للجيش لتفحص والتقاط الصور لأنواع هذه الأسلحة دون علم أحد في موسكو .
بيد أن سنوات التعاون لم تدم طويلاً ، خاصة بعد غزو العراق الكويت ، حيث آثرت فرنسا اتخاذ موقف قوي ضد هذا الغزو ، متحالفة مع معظم دول العالم الغربي والإقليمي وهكذا انتهى شهر العسل، ولكن ليس من دون الإبقاء على خيط للتواصل بين بغداد وباريس : فبقيت السفارة الفرنسية ببغداد ، وبقي المركز الثقافي الفرنسي، الوحيد من بين مراكز جميع دول العالم، يعلم الشباب والشابات العراقيات مبادئ اللغة الفرنسية، بينما راحت الوفود المعلنة والسرية تتناقل بين بغداد وباريس دون انقطاع ربما يكون الإبقاء على هذا الخيط واحداً من أهم مسببات معارضة فرنسا لغزو العراق عام 2003، وهو الغزو الذي مد الرئيس الأميركي جورج بوش بما يكفي من "الانتشاء"، وقتذاك، لتبرير التشدد مع فرنسا وللتلويح بـ"حرمانها" من إسهام شركاتها في عمليات إعادة الإعمار التي كانت الشركات والكارتلات الكبرى تعول عليها لتكويم مليارات الدولارات. بيد أن المركب قد انقلب على الملاح اليوم، خاصة بعد تردي الأوضاع في العراق واكتشاف الموقف الحرج للقوات الأميركية في هذا البلد المضطرب : الآن فرنسا مرحب بها للعب دور "الشريك" في العراق، بينما تدعو فرنسا أخواتها في الاتحاد الأوروبي للاضطلاع بوظيفة رئيسيه هنا هذه هي ذبذبة السياسة الدولية المتقلبة والملتوية على نفسها بين لحظة وأخرى .
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي