Saturday, August 4. 2007
تمثل العلاقة بين الدولة والمجتمع أحد المفاتيح الرئيسية في فهم أوضاع أي بلد. لذلك, فإن كل نظريات التغيير الاجتماعي والسياسي انطلقت من تصور ما لهذه العلاقة,
فشكل التغيير وسرعته ومداه والقوي الفاعلة المشاركة فيه محكوم بهذه العلاقة. وهذا ما يفسر الاختلاف في أنماط التغيير وسرعته بين بلد واخر.
فالدولة, هي رمز السلطة وتجسيد لها, وهي التي تنشيء المؤسسات التي تقوم بتنظيم العلاقات بين الناس في كافة المجالات, وهي التي تملك حق الاستخدام الشرعي للقوة ضد الخارجين عن القانون أو المهددين لسلامة الدولة والمجتمع. أما المجتمع, فهو مجمل العلاقات التي يدخل فيها الأفراد والجماعات والتي يمكن أن تأخذ شكلا إرثيا كالقبائل والعشائر أو شكلا طوعيا كالجمعيات الأهلية. الدولة, تمثل' الفضاء السياسي' الذي يتعامل فيه البشر مع بعضهم البعض باعتبارهم مواطنين. أما المجتمع, فهو مجال التفاعل الإنساني في سائر المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ويثور السؤال حول نوع أو شكل العلاقة بين الدولة والمجتمع ؟ ما هي علاقات التداخل والتاثير المتبادل بينهما ؟ وهل يسيطر أحدهما علي الآخر بشكل مستمر وفي كل الأحوال ؟ وماهي العلاقة بين الثقافة السائدة في مجتمع ما وشكل نظامه السياسي أو الاقتصادي ؟ وحول الإجابة عن هذه الأسئلة, برز إتجاهان رئيسيان في العلوم الاجتماعية.
الإتجاه الأول, إنطلق من أولوية الدولة ومركزية دورها في أي مجتمع معاصر. ويتأسس هذا الاتجاه علي اعتبار أن الدولة هي التي تقوم بالتعبير عن الصالح العام, وهي التي تحقق التوازن والانسجام بين فئات المجتمع وطبقاته, وهي الحكم العادل بين المطالب المختلفة لجماعات المصالح التي تسعي كل منها إلي تحقيق أكبر منفعة لها. وحسب أنصار هذا الاتجاه فإن الدولة ترعي المجتمع, وتحمي مصالحه, وتصون هويته, وتدافع عن حدوده, وتحقق أمن أفراده.
هذا الاتجاه يقوم علي افتراض استقلال الدولة النسبي عن المجتمع, وأنها الطرف القادر علي تغيير المجتمع وتحديثه وتطويره وفقا لرؤية النخب الحاكمة وأفكارها. وكان هذا هو الافتراض الذي تاسس عليه دور الدولة في الفكر الاشتراكي والماركسي, كما كان هو الافتراض الذي انطلقت منه نظريات التنمية والتحديث في الفكر الغربي.
أما الاتجاه الثاني, فإنه يركز علي أولوية المجتمع, وأن الدولة ليست محايدة أو مستقلة عن محيطها الاجتماعي, وأنها تمثل امتدادا للمصالح والثقافات والأفكار السائدة في المجتمع. دعم من هذا الاتجاه فشل سياسات التنمية في عديد من الدول النامية بسبب هيمنة مؤسسات الدولة واحتكارها لتخطيط السياسات العامة وتنفيذها دون مشاركة كافية من المواطنين الذين سوف يستفيدون من هذه السياسات. في بعض الأحيان أنهارت مؤسسات الدولة وتفككت, وفي احيان أخري سقطت مؤسساتها في قبضة احدي الأقليات أو الفئات بحيث لم تعد حكما أو تعبيراعن الصالح العام, بل طرفا يستخدم جهاز الدولة لتحقيق مصالح جماعة فئوية أو طائفية أو إثنية علي حساب الاخرين. وكان من شأن ذلك تعميق عوامل الانقسام في المجتمع وبروز مختلف مظاهر العنف الإثني والديني والطائفي.
والحقيقة, أن العلاقة بين الدولة والمجتمع ليست معادلة' صفرية' بمعني أن زيادة قوة الدولة لا تكون بالضرورة علي حساب المجتمع أو العكس تصور أن زيادة قوة المجتمع لابد أن يترتب عليها أو يرتبط بها إضعاف لسلطة الدولة. فهناك شبكة معقدة من العلاقات بين الاثنين. فنظام الحكم في الدولة يتنبي سياسات عامة تهدف إلي إرضاء المواطنين, وقد يتبني سياسات يكون من شأنها تغيير هيكل الفرص السياسية لإحدي الجماعات بمعني أن تنحاز هذه السياسات لفئة أو طبقة بعينها لتعويضها عن ما أصابها من غبن في مراحل سابقة.
والأصل في الأمور أن شاغلي مواقع السلطة يمارسون عملهم وفقا للصالح العام. وهناك فكر مستقر وواضح بشأن التمييز بين مفهوم' المصلحة الخاصة' ومفهوم' المصلحة العامة', وصدرت تشريعات في كل الدول المتقدمة لتنظيم هذه العلاقة بما يحقق الفصل الواضح بين الأمرين. ولكن بعض شاغلي السلطة_ في الواقع- قد يقومون بممارسة سلطاتهم بما يحقق لهم مصالح اقتصادية خاصة وهو ما يعتبر إنحرافا بمفهوم الوظيفة العامة والقوانين التي تنظمها. كذلك, فإن الثقافة السائدة في المجتمع وتوقعات المواطنين من الدولة, وخصوصا في مجال الخدمات التي يعتبرون الدولة مسئولة عن توفيرها لهم, يمثل عنصر دعم لسياسات الدولة أو عامل تعويق لها.
وأدي ما تقدم إلي اجتهادات متعددة بشأن إعادة تعريف سيادة الدولة ودورها وعلاقتها بمجتمعها. وأزداد الإدراك بوجود حدود لسلطة الدولة وبعدم قدرتها علي تجاوز حدود وقيود مجتمعية وعالمية. وأن الدولة لا يمكن, مهما بدت متسلطة, أن تستقل عن مجتمعها أو أن تتمتع بحرية غير محدودة في إدارة أمور المجتمع وإعادة تشكيل توازناته وعلاقاته وفقا لرغباتها. واثبت المجتمع, كما أوضحت خبرة الإتحاد السوفيتي السابق ودول شرق أوروبا, قدرته علي التمسك بمقوماته الاجتماعية والثقافية لحقب طويلة في مواجهة سياسات الدولة. وأنه في بعض المجالات, فإن المجتمع يكون أقوي من الدولة وبالذات عندما تسعي الدولة لتغيير عناصر في المجتمع يعتبرها الناس لصيقة بهوياتهم وثقافاتهم وأديانهم.
وأدي ذلك ايضا إلي إعادة النظر في مفهوم قوة الدولة وأنها لا تنبع من قدرتها العسكرية أو القمعية, ولكن تعتمد اساسا علي قدرتها علي تنفيذ السياسات العامة التي توفر الخدمات الأساسية للمواطنين, وقدرتها علي توفير الأمن الشخصي والعدل الاجتماعي لهم, وقدرتها علي توفير فرص المشاركة العامة للأفراد والجماعات.
فالدولة القوية تستند إلي مجتمع قوي, والمجتمع القوي وحده هو الذي يفرز دولة قوية.
|