إذا كان الغزو الأمريكي للعراق قد رتب نتائج كارثية عديدة على منطقة الخليج ابتداءً بالتداعيات الطائفية ومرورا بمظاهر العنف التي لم تنج منها دول الجوار وانتهاء بحالة عدم الاستقرار عمومًا، إلاّ أن أخطر تلك التداعيات هو خروج العراق من معادلة التوازن الإقليمي التي طالما قام عليها الأمن في الخليج..
من ثم فإن ما يتردد بشأن إمكانية تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات (سنة وشيعة وأكراد) هو أمر بالغ الخطورة بما يعني أنه لا مجال للحديث عن عراق موحد في المستقبل.. بل فوضى عراقية تتلوها فوضى إقليمية غير مسبوقة.
وثمة مؤشرات عكست حالة الجدل التي تشهدها الأوساط الأمريكية بهذا الشأن على سبيل المثال لا الحصر:
- الدراسة التي أصدرها مؤخرًا معهد «بروكينجز» حيث اقترحت ما أسمته «تقسيمًا ناعمًا للعراق» وذلك استنادًا إلى النموذج البوسني إذ أكدت الدراسة أن الحرب في البوسنة لم تنته إلاّ بعد مقتل حوالي 200 ألف مدني وهروب نصف سكان العراق من مساكنهم، وهو ما ينطبق على الحالة العراقية حاليا وقد بررت الدراسة هذه الفكرة مقارنة بالوضع الحالي في العراق حيث ان استمرار العنف الطائفي أو سحب القوات الأمريكية من العراق خياران كلاهما مر، وبالتالي فإن خيار التقسيم قد يكون هو الأكثر قبولاً بالنسبة للعراقيين - وفقًا للدراسة المشار إليها -.
- تصريح السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة لصحيفة «لوموند» الفرنسية بالقول «ليست للولايات المتحدة مصلحة استراتيجية في وجوب أن يكون هناك عراق واحد أو ثلاثة» مضيفا ان «مصلحتنا الاستراتيجية هي أن ما ستخرج إلى حيز الوجود لن تكون دولة فاشلة تمامًا. أو أن تصبح ملاذًا للإرهابيين أو دولة إرهابية» ولا شك أن هذا التصريح يعكس دلالات مهمة وهي أن شكل العراق ليس هو الأمر المهم بالنسبة للإدارة الأمريكية وإنما استمرار المصالح الحيوية للولايات المتحدة هناك.
- ومن ناحية ثالثة يجيء تصريح الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية الذي اعتبر أن تقسيم العراق يعد تصحيحًا للخلل التاريخي الذي وضعه البريطانيون في عراق موحد واستبداله بإقامة الدول الثلاث: كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب»، وتعكس التصريحات السابقة أمرين مهمين أولهما: أن الجدل يثار في الأوساط السياسية والأكاديمية الأمريكية معا بما يعني أنه قد يكون اختبارًا للأطراف العراقية بهذا الشأن وكذلك دول الجوار، وثانيهما: تُطرح هذه الفكرة كلما تعثرت الولايات المتحدة في العراق حيث أن الأشهر المنقضية من العام الحالي قد شهدت أعلى معدلات للعنف في العراق الذي تصاعد قبيل موعد تقديم الإدارة الأمريكية تقريرًا للكونجرس حول ما تم إنجازه.
- وعلى الرغم من أن ما أثير حتى الآن لا يتجاوز نطاق الأفكار فإن تحقيق هذا السيناريو من شأنه أن يلقي بتداعيات بالغة الخطورة سواء على العراق أو على دول الجوار منها:
٭ إمكانية نشوب صراعات داخلية في العراق بين الدويلات الجديدة، فضلاً عن إمكانية إعادة تقسيم هذه الدويلات بدورها إلى دويلات أخرى ومن ثم تفاقم مظاهر العنف وحدة الاحتقان الطائفي في العراق، وبالتالي تفاقم مشكلة اللاجئين تلك القضية التي اجمع مؤتمر عقد مؤخرا لدراستها بأن أفضل البدائل لهؤلاء هو إعادتهم إلى العراق.
٭ انطلاقا من تباين مصالح دول الجوار في العراق فإن الدويلات العراقية الجديدة لن يجمعها برنامج وطني واحد وإنما ستكون لها امتدادات خارجية الأمر الذي يعوق الاتفاق على أجندة عراقية موحدة وبالتالي يظل العراق أسيرا لهذه التجاذبات الإقليمية التي قد تكون لها مصلحة في استمرار العراق منقسمًا على ذاته لسنوات مقبلة.
٭ احتمال سوء توزيع الموارد في ظل وضع التقسيم الجديد ومن ثم فإن الافتقار للمقومات الاقتصادية يعد بيئة مواتية للإرهاب عمومًا وتنظيم القاعدة بوجه خاص والذي اتخذ من الأراضي العراقية ملاذًا له ولا يزال يمثل التحدي الأكبر أمام جهود إعادة الأمن والاستقرار في العراق إذا أشار تقرير أمريكي صدر مؤخرا إلى أن تنظيم «القاعدة» أضحى أكثر قوة عن ذي قبل، وفي هذا الشأن يقول المحلل الأمريكي انتوني كوردسمان «تقسيم العراق سوف يوجد بيئة خصبة لامتداد القاعدة خاصة وانه من المتوقع حدوث صراعات داخلية تتورط فيها الدولة السنية وهي فرصة سوف تنتهزها القاعدة من أجل بسط سيطرتها على رقعة هذه الدولة».
٭ لا تقتصر تداعيات احتمال التقسيم على الداخل العراقي وإنما الخطورة البالغة سوف تتمثل في الوضع الإقليمي عموما الذي سوف يعزز وضع إيران الإقليمي حيث نجحت في إقامة عدة تحالفات مع بعض الجماعات التي تتفق معها في النهج والهدف.. بما أوجد ذلك وضعا بالغ التعقيد وهو إيران القوية في مواجهة الدول المعتدلة الأخرى في ظل غياب موازن إقليمي قوي.. ولعل التصريحات الإيرانية الأخيرة بشأن أحقية طهران في بعض دول الخليج، فضلاً عن الاعتداء على الدبلوماسي الكويتي في طهران، بالإضافة إلى تهديد إيران الصريح لدول الخليج باستهدافها في حالة تعرضها لضربة عسكرية هي مؤشرات على الحالة الإيرانية الراهنة التي تعززت مع خروج العراق من معادلة التوازن الإقليمي وبالتالي لم تكن مبالغة أن يشير وزير الخارجية المصري إلى أن إيران أضحت خطرًا على الأمن القومي العربي وهو ما يعكس انعكاس الدور الإيراني في المنطقة عمومًا على دول الجوار الإقليمي حيث ان الأمر قد لا يقتصر على التدخل الإيراني، كما أن أطرافًا أخرى قد تحذو حذو طهران إذ تحرص على أن يكون لها موطئ قدم في العراق بما يعني ابقاءه في حالة من الفوضى المستمرة.
وبعيدا عن هذا وذاك يلاحظ أن ما يشهده العراق من حقائق على الأرض في الوقت الراهن تشير إلى بعض الإجراءات التي تمثل مؤشرات على تفكيك الدولة ذاتها سواء كان ذلك يندرج ضمن مسميات التقسيم أم لا ومنها:
- ازدياد حدة العنف الطائفي الأمر الذي أدى إلى حالة من التهجير القسري وفي هذا الشأن يشار إلى تقرير لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حيث أكد ارتفاع عدد النازحين العراقيين داخليًا نحو مناطق أكثر أمنًا من 660 ألف شخص عام 2006 إلى 1,8 مليون شخص في منتصف العام الحالي 2007 وإذا ما أخذنا في الاعتبار استمرار ظاهرة بناء الأسوار فإن ذلك يعني وجود رغبة في التمايز الطائفي وهو أحد أسس التقسيم.
- حالة السيولة التي تشهدها القوى السياسية العراقية إذ يلاحظ أنها لم تشهد استقرارا حتى الآن سواء في المسميات أو البرامج فتارة تحالف وتارة أخرى انشقاق ومن ذلك الأحداث التي شهدتها جبهة التوافق العراقية، والكتلة الصدرية مؤخرًا بما يعني أنه لا يوجد إجماع عراقي على قضايا عراقية موحدة وبالتالي تعثر المصالحة واستمرار الانشقاقات التي تؤدي حتمًا إلى تجذر فكرة التقسيم مستقبلاً، وقد لوحظ أن الطائفية قد تجذرت بوضوح في كافة مراحل العملية السياسية ما بعد الغزو الأمريكي للعراق فخلال الانتخابات البرلمانية ذهب 90٪ من الناخبين على أسس طائفي.
- الجدل الذي أثير مؤخرًا بشأن قانون النفط حيث اعتبره البعض بداية لتقسيم العراق إذ منح مميزات لبعض الطوائف دون الآخر وهو ما عرقل إقراره من جانب البرلمان العراقي حتى الآن.
- ومع التسليم بما سبق فإن حل معضلات العراق لن يكون سوى بأيدي العراقيين أنفسهم الذين يتعين عليهم الاتفاق على برنامج وطني للمصالحة، وهو الأمر الذي أكد عليه صراحة روبرت جيتس خلال زيارته الأخيرة للعراق حيث قال: «إن الأمر يقتضي مد اليد إلى السنة» وبالتالي فإن صياغة رؤى مشتركة للقضايا العراقية الراهنة على كافة الصعد يحول دون انزلاق العراق إلى مستقبل مجهول يحصد الآلاف من أرواح أبنائه الأبرياء يوميا ليكون عراقا واحدا أو لا عراق !!.