تشهد الساحة العراقية في الآونة الأخيرة مزيدا من أعمال العنف المتواصل والمدمر في ظل ما يتردد عن انسحاب أمريكي يحفظ لها ماء الوجه أو ما يسمى بخطة الفرار من العراق، وتحاول الإدارة الأمريكية بشتى الوسائل إشراك المجتمع الدولي ممثلاً في مطالبة الأمم المتحدة بضرورة توفير الدعم للعراقيين في حالة الإنسحاب،
هذا من جانب، ومن جانب آخر ضرورة إشراك الدول العربية في تأمين عملية الانسحاب الأمريكي من العراق.
وفي هذا الإطار أكد وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس أن وزارته تعكف حاليا على إعداد خطط طوارئ للانسحاب التدريجي من العراق، كما أكدت تقارير سياسية أن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش تخطط لعقد مؤتمر إقليمي جديد حول العراق تشارك فيه الدول العربية وإيران لبحث مستقبل الأوضاع في العراق واعادة الاستقرار اليه وذكرت ان المؤتمر المقبل سيختلف بصورة أساسية عن المؤتمرات المشابهة وآخرها مؤتمر شرم الشيخ حيث تعتزم الولايات المتحدة أن تجعله نقطة انطلاق لتشكيل آلية دائمة ذات لقاءات دورية منتظمة تشارك فيها الدول الأعضاء.
وأشارت التقارير إلى أن وزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين روبرت جيتس وكونداليزا رايس يتبنيان هذه الفكرة بقوة داخل الإدارة الأمريكية، وأنها ستكون المحور الرئيسي لمباحثاتهما مع قادة ومسؤولي الدول العربية خلال جولتهما المشتركة في المنطقة الأسبوع المقبل بما في ذلك المباحثات التي سيعقدانها مع وزراء خارجية مصر والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي في شرم الشيخ.
وفي الوقت نفسه ذكر شين ماكورماك المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أن رايس وجيتس سيبحثان مع قادة مصر والسعودية على نحو خاص كل القضايا المرتبطة بالعراق والدعم الذي يمكن أن تقدمه الدول العربية والمجاورة لمساندة الشعب العراقي وامكانية أن تصبح هذه البلاد شركاء نشطين في مساعدة العراقيين على بناء مستقبل أفضل.
وفي السياق ذاته تأتي المحادثات الأمريكية ـــ الإيرانية من أجل بحث مستقبل أمن العراق، حيث أكد السفير الأمريكي في العراق رايان كروكر ان واشنطن مصرة على منح طهران المزيد من الوقت لاثبات حسن نيتها وتحقيق نتائج ملموسة بشأن الأمن في العراق.
تفاهمات إقليمية ودولية
تمهيداً لانسحاب «مشرف»
يمكن القول ان ما تريده الولايات المتحدة حاليا أكثر من أي وقت مضى هو الخروج «المشرف» من العراق غير أن هذا الهدف الذي يجسد كل أزماتها وفشلها، يبدو صعباً في ظل الأوضاع الحالية. وما تحاول إدارة الرئيس جورج بوش أن تفعله، هو تهيئة مجموعة من الظروف والتفاهمات الإقليمية والدولية التي تصنع منها في النهاية اللحظة الفاصلة التي تراها مواتية لكي يخرج بوش في مشهد تاريخي ليعلن للشعب الأمريكي والشعوب المحبة للسلام والديمقراطية أن المهمة اكتملت وان القوات الأمريكية ستبدأ الانسحاب بعد أن أنجزت عملية حرية العراق.
ما تريده واشنطن من العالم هو أن يساعدها لبلوغ هذه الغاية والمطلب ـــ مرحليا ـــ هو تقليص التورط الأمريكي في العراق وزيادة التدخل الدولي بالمقابل. بمعنى تخفيف الأعباء عن كاهلها وإلقائها على عاتق شركاء عرب وأجانب آخرين كل سيكون له دوره.
المساهمة الدولية التي تتطلع إليها واشنطن ذات محورين أولهما اقتصادي من خلال المساعدات. وقد قطعت بالفعل شوطا طويلا وناجحا على هذا الصعيد كان آخره ما تحقق من تعهدات في مؤتمر نيويورك مؤخراً. أما المحور الآخر فهو أمني، يتمثل في إرسال قوات عسكرية. وهو ما لم تعلن عنه واشنطن بوضوح كاف حتى الآن.
ولأن الولايات المتحدة تعلم ان القوات العراقية يمكن أن تنهار لحظة خروج الجيش الأمريكي من بغداد فلن يكون أمامها سوى الاستعانة بقوات دولية تحت أي مسمى لمنع تلك الكارثة. غير أن تشكيل مثل هذه القوات ليس سهلا خاصة ان العدد المطلوب سيكون كبيرا لتفادي الخطأ الذي وقعت فيه الولايات المتحدة أو أوقعها فيه وزير دفاعها السابق دونالد رامسفيلد، عندما رفض زيادة القوات. ووفقا لتقديرات الخبراء العسكريين فإن تحقيق الأمن يتطلب قوات أجنبية يتراوح قوامها بين 250 و450 ألف جندي الى جانب القوات العراقية. وقياسا على التجارب في الدول الأخرى فإن نسبة القوات الأجنبية إلى عدد السكان في حالتي البوسنة وكوسوفو بعد الحرب الداخلية فيهما كانت واحدا إلى 50 بمعنى وجود جندي أجنبي مقابل كل خمسين مواطنا عراقيا. بينما كانت هذه النسبة في العراق بعد الغزو عام 2003 هي واحد إلى 145 وفي أفغانستان كانت واحدا إلى مائة عام 2001 وساهم هذا في تنامي الجماعات المسلحة بسهولة أكبر والعدد الضخم للقوات ليس المشكلة الوحيدة فلا بد أن تكون الدول المشاركة مستعدة للعمل لفترة طويلة وخطيرة أيضا وبالرجوع إلى النموذجين السابقين سنجد القوات الأجنبية ما زالت تعمل في البوسنة بعد مرور 12 عاما على إرسالها أما في كوسوفو فهي موجودة منذ ثمانية أعوام ولا يعرف احد متى سترحل. ووفقا لتقدير الخبراء فإن الحد الأدنى لمدة بقاء هذه القوات بالعراق هو ما بين 3 و 5 سنوات من لحظة التوصل الى اتفاق سياسي ينهي الحرب الأهلية وليس من لحظة وصولها.
على الجانب الاقتصادي يرى الخبراء الأمريكيون غير الحكوميين أن العراق في حاجة إلى وقت أطول يمتد من 8 الى 10 سنوات للتعافي الاقتصادي وليس الانتعاش ومرة أخرى يشيرون إلى أن حساب هذه الفترة يبدأ من يوم وقف العنف وليس من تاريخ انطلاق أية خطة محتملة لإعادة البناء أو بدء تدفق المساعدات. ولا تبدو هذه المدة الزمنية طويلة بالفعل قياسا على تجارب الدول الأخرى. وعلى سبيل المثال فقد ظلت بولندا والمجر والتشيك تتلقي مساعدات دولية لمدة 6 سنوات بعد انهيار النظم الشيوعية بها. بل إن أوكرانيا وروسيا أنفسهما بقيتا تخضعان لبرنامج إنعاش اقتصادي خارجي بعد تغيير نظام الحكم فيهما لنحو 8 سنوات قبل أن يبدأ اقتصادهما في النمو مع الوضع في الاعتبار أن ظروف العراق أسوأ بكثير وربما لا يقارن مع أحوال هذه الدول.
إجمالي القول: ان واشنطن لم يعد بمقدورها لأسباب اقتصادية وعسكرية وسياسية مفهومة تحمل النزيف البشري والمادي في العراق وهي بالتالي تنتظر وتحتاج يد العون من الآخرين حتى لو امتدت اليها هذه اليد من رأس محور الشر في طهران.
وما تريده واشنطن تحديدا هو قوة دولية تسمح لها بتخفيض حجم قواتها وإخراج ما سيتبقى منها بعيدا عن الكتل السكانية إلى جانب مساعدات دولية لإعادة بناء الدولة العراقية المنهارة.
تهيئة الداخل العراقي أمر ضروري
فضلاً عما سبق هناك مؤشرات كثيرة تظهر أن هناك خططا أمريكية متسارعة تجري في العراق ليس من أجل تحقيق نصر عسكري كما يزعم الرئيس الأمريكي، وإنما من أجل تحقيق «تحول سياسي» في العراق، استعدادا لإعلان جدول زمني للانسحاب النهائي - مع بقاء قواعد خصوصا في شمال العراق - وأنه من أجل هذه الخطوة المقبلة بدأت خطط تكثيف الضغط على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي كي يفتح المجال أمام تلبية بعض مطالب العشائر السنية في محاولة لإقناع المقاومة السنية بوقف القتال.
وتؤكد المؤشرات أن هذه الخطة الأمريكية التي ركزت على تمشيط مدن عراقية سنية في محاولة أخيرة لإضعاف «الجيش الإسلامي» و«القاعدة»، وكذا ضرب بعض مصادر قوة التيار الصدري، استهدفت بصورة أكبر السعي لإقرار سلسلة قوانين وتعديلات سياسية ترضي السنة بصورة ما، وبما يسهل الانسحاب الأمريكي في ضوء ضغوط الكونجرس ذي الأغلبية الديمقراطية لوضع جدول زمني للانسحاب، وربما تحسبا لخطة بريطانية بوضع جدول زمني للانسحاب قد تشكل مأزقا لإدارة بوش.
ويبدو أن تصاعد هذه الضغوط الداخلية في أمريكا ضد إدارة بوش والمطالبة بالانسحاب، علاوة على انهيار شعبيته مع اقتراب انتهاء ولايته الأخيرة وظهور تقارير رسمية من البيت الأبيض تؤكد فشل الاستراتيجية الجديدة في العراق - التي تقضي بإرسال تعزيزات 30 ألف جندي إضافي - حيث لم يتحقق سوى 8 فقط من 18 هدفا حددها الكونجرس أغلبها أمنية لا سياسية، مما أدى لإنعاش الخطط القديمة التي طرحها خبراء لتقسيم العراق لثلاث مناطق كردية وسنية وشيعية تتمتع كل منها بالحكم الذاتي - مثل الخطة التي طرحها في أوائل مايو 2006 السيناتور الديمقراطي جوزيف بايدن - كي تصبح هي الحل على المدى البعيد لمشكلة العراق الحالية، خصوصا أن الظروف بالفعل باتت مهيأة بصورة أكبر لذلك.
صحيح أن التقسيم لا يزال مرفوضا من الجميع بما فيهم واشنطن التي تخشى تأثير التقسيم على دول الخليج ومصالحها هناك، ولكن فكرة الفيدرالية أو اللامركزية المطروحة بقوة من عدة مراكز بحثية أمريكية تعمل لصالح الإدارة، والتي تعني في النهاية «شبه تقسيم» للعراق بين السنة والشيعة في ضوء انفصال الشمال الكردي فعليا، أصبحت تتردد بقوة في واشنطن كحل أخير يضمن بقاء السيطرة والنفوذ الأمريكي مستقبلا في العراق، ويتبناها العديد من السياسيين مثل السيناتور الجمهوري كيلي بايلي هوتجيسون، والتي ترى في تقسيم العراق المخرج الوحيد من المستنقع العراقي.
بل ان الحكومة العراقية مستمرة في إصدار قرارات تصب في هذه الخانة مثل قرار حكومة نوري المالكي تمرير مشروع قانون النفط والغاز في غياب 13 وزيرا أغلبهم من السنة، الذي خصص 17٪ من واردات النفط العراقي لحكومة إقليم كردستان في خطوة وصفها المراقبون بأنها بداية صريحة لتطبيق الفيدرالية.
ويساعد على هذا أن الإنجاز السياسي في العراق - وفق تقرير البيت الأبيض المعلن عن فشل إستراتيجية العراق الجديدة - جاء متدنيا، حيث أشار التقرير المرحلي حول الاستراتيجية الجديدة في العراق إلى «تقدم ضئيل للحكومة العراقية في عدة أهداف عسكرية وسياسية»، وأن هناك فشلا لحكومة المالكي في إنجاز الأهداف السياسية.
وأحدث دراسة في هذا الصدد أصدرها مركز سابان التابع لمعهد بروكينجز للدراسات السياسية والإستراتيجية بواشنطن، وجاءت تحت عنوان «حالة التقسيم السهل للعراق»، ركز فيها - كما يقول عنوانه - على أن التقسيم بات سهلا الآن عن ذي قبل في العراق، وأن إمكانية تطبيق الفيدرالية ونسبة النجاح لا تقارن بالوضع الحالي، ناهيك عن الصعوبات التي ستواجه الأطراف المختلفة إذا تم تطبيق الخيار الذي أطلقت عليه الدراسة «الخطة ب».
وحتى الآن رفض الرئيس مشروعي قرارين للكونجرس لبدء سحب القوات الأمريكية من العراق في موعد أقصاه الأول من ابريل ،2008 لكن من الصعب الاستمرار في الرفض خصوصا أن الحكومة العراقية بدورها لا تبذل جهدا - كما يتهمها الأمريكيون - بنشر قوات عراقية إضافية وتوفير الأمن في المدن العراقية كي يمكن إنهاء الوجود الأمريكي تدريجيا.
أما البديل الأخير في حالة فشل هذه الخطط في إنجاز تهدئة على الأرض قبيل انتهاء ولاية الرئيس بوش فربما تكون هي الخطة «ب» الخاصة بتشجيع الفيدرالية، والتي تطرح بدورها كتهديد لسنة العراق في حالة رفضهم التفاهم والحوار مع الأمريكيين، لأن التقسيم أو الفيدرالية يعني في هذه الحالة سيطرة الشيعة على غالبية ثروة العراق النفطية، في ضوء انتشار آبار النفط في الجنوب ذي الأغلبية الشيعية والذي سينضم ضمنا للقسم الشيعي إذا ما طبق الخيار الفيدرالي. وفي معظم الأحوال ستظل وحدة العراق مهددة وقابلة للتفتيت ما لم تدرك جميع التيارات السياسية العراقية المخلصة لوطنها أهمية وضرورة الإتفاق على العيش سوياً في وطن واحد ونسيج اجتماعي واحد.