شاعت في هذا الزمان ألقاب وصفات عن الله كأن يقال عنه إن له حزباً اسمه «حزب الله». وهذا الحزب مثله مثل أي حزب له معارض اسمه «حزب الشيطان»، أو كأن يقال عنه إن له جيشاً يحارب به جيشاً آخر يكون في عداد الأعداء. وهذا الجيش اسمه «جند الله» أو «أجناد الله» أو «أنصار الله»،أو «محاربون في سبيل الله».
وبناء عليه صدر كتاب فى عام 2005 عنوانه «سياسة الله» لمفكر أمريكي اسمه جيم واليس مشهور بأنه من القيادات المعروفة في تدعيم التداخل بين الدين والسياسة في أمريكا المعاصرة، وبأنه لاهوتي مرموق وواعظ مشهور في الوقت ذاته، وله عمود في عدة صحف أمريكية.
وأهمية كتابه مردودة إلى تصويره للصراع الدائر بين اليمين واليسار على أنه المحدَد لمستقبل المسار الأمريكي وهو مسار الصدارة فيه لليمين وليس لليسار، وإن شئت الدقة قلنا إنه مسار الصدارة فيه للأصولية المسيحية وليس للعلمانية. وقد اتضحت سمة هذه الصدارة في انتخابات جورج بوش الابن المؤيد لهذه الأصولية. وإذا كانت أمريكا الآن هي القوة الوحيدة على الكوكب التي ليس لها منافس فإنها، من هذه الزاوية الأصولية، تكون مسئولة عن هذا المسار وما يؤديه من تأثير سواء بالخير أو بالشر. والسؤال بعد ذلك: ما مدى التفاعل بين الأصولية المسيحية في أمريكا، والأصوليات الأخرى على تباينها؟
يرى جيم واليس أن ثمة اعتقاداً خاطئاً روَج له أغلب البريطانيين وهو أن جميع المسيحيين في أمريكا لا يختلفون عن الوعاظ الأصوليين الذين يظهرون في القنوات التليفزيونية مثل القس جيريفلولول مؤسس «حزب الغالبية الأخلاقية» أو بالأدق مؤسس الحزب الأصولي المسيحي، وبات روبرتسون زعيم حزب التحالف المسيحي وهو تحالف أصولي، وأن المؤمنين الأمريكان هم المكونون لليمين المسيحي، وأن كل هؤلاء قد انتخبوا جورج بوش الابن، وأنهم أيدوه فى حربه ضد العراق. ومع ذلك فإن هذا اليمين الديني يواجه إشكالية في علاقته مع الله وهى على النحو الآتي: هل الله معه أو أنه يتمنى أن يكون الله معه؟ إلا أن هذه الاشكالية، في رأى واليس، ليست واردة عند الله لأنه ليس منحازاً لا لليمين ولا لليسار. هو ليس منحازاً لليمين بسبب عدم انشغال هذا اليمين بهموم الفقراء، كما أنه ليس منحازاً لليسار بسبب علمانية هذا اليسار. إن الله، في رأي واليس، منحاز للقيم الأخلاقية. ومن هنا إذا أراد أي من هذين التيارين، اليمين أو اليسار، أن يكون الله منحازاً له فيلزم أن يلتزم بمسألتين لا ثالث لهما وهى الشذوذ الجنسي والاجهاض. وهذا الالتزام هو جوهر الدين المسيحي، وهو الرؤية التي تصلح أن تكون أرضية مشتركة للحزبين الجمهوري والديمقراطي. إلا أن الأساقفة الكاثوليك، أثناء المعركة الانتخابية لجورج بوش الابن، أرادوا أن يحدثوا تعديلاً لهذه الأرضية المشتركة وذلك فى إطار البيان الذى أصدروه، وقد جاء على هيئة أسئلةهى على النحو الآتي:
كيف يمكن للضعفاء أن يكونوا أفضل حالاً فى السنوات القادمة؟ وكيف نحمى الحياة الانسانية وندفعها إلى الأمام؟ وكيف يمكن تحقيق العدالة والسلام؟ ثم طالبوا المؤمنين بدورهم بأن يجروا حواراً حول هذه الأسئلة.
ومغزى هذا البيان أنه قد فتح الباب أمام اليمين المسيحي لتأسيس سياسة مسيحية، ولكنه فى الوقت ذاته قد فتح الباب أمام البحث عن بديل يتجاوز كلا من اليمين المسيحي واليسار العلماني. وهذا البديل من شأنه إثارة مسألة كيفية مواجهة الارهاب. وهنا ثمة سؤال فى حاجة إلى إثارة: كيف يمكن اصدار أحكام لاهوتية في شأن الارهاب؟ وفى صياغة أدق: هل يمكن تأسيس لاهوت للإمبراطورية الأمريكية؟ وهل هذا التأسيس يمكن أن يشكل خطورة؟
جوابي أن هذا السؤال قد يفرز صراعاً بين الأصولية والعلمانية. ولا أدل على ذلك مما حدث عندما قررت الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم فى عام 1988 أن تكون جامعة شيكاغو مسئولة عن اصدار خمسة مجلدات عن توجهات الأصوليات أيا كانت سمتها الدينية فى مختلف مجالات الحياة الانسانية. وقد أشرف على تحرير هذه المجلدات اثنان من أساتذة هذه الجامعة وهما مارتن مارتى وسكوت أبلباى. ويهمنا الأول لأنه المشرف الأساسي، إذ هو أستاذ متميز وهو لقب يمنح للأستاذ عندما يكون قادراً على إلقاء محاضرات خارج تخصصه. أما تخصصه فهو فى تاريخ المسيحية المعاصرة ثم هو رئيس تحرير مجلة «كرستيان سنشرى». كان قد تنبأ بأن الأصولية الدينية فى حالة صعود بسبب الانحطاط الأخلاقي، وأنها في هذا الصعود إنما تنفذ إرادة الله، ومن ثم تفسح المجال لمشروعية تعدد التراث بحكم تعددية المتدينين وبحكم إمكان تعايشهم على الرغم من التباينات العقائدية الكامنة في هذه التعددية ولكن بشرط أن يكون المتدينون على وعى بأن الايمان قد سُرق من المجال السياسي وعليهم أن يستعيدوه. وفى رأيه أن هذه السرقة قد حدثت لأن اليمين الديني السياسي قد انشغل بمسائل الجنس والثقافة وتجاهل مسألة العدالة، ولأن اليسار العلماني قد أسهم بدوره فى هذه السرقة لأنه لا يفهم مغزى الدين فى المجال السياسي، إذ هو يستبعد الروحانيات بدعوى عدم علاقتها بالتغير الاجتماعي. ويتفق واليس مع تحليل مارتن مارتي فى مسألة الإيمان المسروق.
والرأي عندي أن سارق الايمان هو الأصولي المسيحي وليس هو اليسار العلماني وذلك بفضل وهم الدولة بأن الله يلعب سياسة. والسؤال بعد ذلك: إذا كان الله يلعب سياسة مع الأصولية المسيحية فهل يمكن القول بأن ثمة مسيحية كوكبية قادمة؟