للعراق اذا قدرة كامنة على الاقتراض او تحمل دين اضافي قد يساوي 25 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي (البالغ حوالي 140 مليار دولار للعام 2012) واكثر من 35 مليار دولار اضافي يمكن اقتراضها لتصل الى نسبة 60 بالمئة، وهي تماثل سقف الدين العام المحتمل الى الناتج المحلي الاجمالي، اي طاقة تحمّل الدين القصوى.
تؤشر بواكير الفكر الاقتصادي للتنمية ان ثروة الأمم تقاس بعناصر ثلاثة. أولها؛ رأس المال البشري والاستثمار فيه وتنشئته؛ وثانيها يتمثل برأس المال الاجتماعي الثابت social overhead capital، الذي ينقسم الى رأسمال اقتصادي او ما يسمى بالبنية التحتية المادية التي قوامها شبكات الطرق والكهرباء والاتصالات وغيرها، والجزء الآخر من البنى التحتية هو ما يسمى برأس المال الاجتماعي ويقصد بـه المؤسسات القانونية والصحية والتعليمية والمصرفية وغيرها، فضلاً عن التكوين الرأسمالي المادي الثابت المتعلق بنشاطات الانتاج المباشر من السلع والخدمات كالمصانع وغيرها. والعنصر الثالث في مقاييس الثروة يتعلق بالموارد الطبيعية ومخزوناتها، التي تقدر في العراق بقيمة حاضرة صافية ربما تزيد على 12 تريليون دولار بفضل احتياطيات الثروة النفطية الكامنة وغير المستغلة والثروات المادية الاخرى، وهي تزيد بمرتين على استراليا ـ لو حَسُنَ استثمارها حقاً ـ في حين تبلغ تلك الثروة في الولايات المتحدة حوالي 118 تريليون دولار.
في الوقت الذي يزخر فيه العراق بالعنصر الثالث، الا انه يفتقر نسبيا الى العنصرين الآخرين للثروة، لاسيما تدهور رأس المال الاقتصادي الثابت او البنية التحتية المادية والدمار الحاصل فيهما.
البنية التحتية في الاقتصاد الوطني تتميز بكلفة ابتدائية ثابتة عالية جداً، في حين تتمتع بكلفة متغيرة منخفضة عند التشغيل الانتاجي، فضلا عن مصاعب في التسعير، والحصول على عوائد مالية مباشرة. كما ان الاستثمار في البنى التحتية لا ينتمي بطبيعته الى الاستثمار في السوق الاعتيادية، الا ان اهميته الاستراتيجية تؤدي الى تطوير مستويات وكفاية النشاطات الانتاجية المباشرة لأنها المزود للسلع والخدمات الضرورية لتوليد مستويات عالية من الناتج الوطني عبر صلة مباشرة او غير مباشرة بالنشاط الانتاجي. وبهذا فأن الانتاج الناجم عن تشغيل الاستثمار في رأس المال الاجتماعي يغذي خدمات اكثر من نشاط صناعي او اقتصادي ويرفع من كفاية الانتاج والاستخدام الامثل في الطاقة الانتاجية المباشرة.
وحصة الفرد في تلك البنى التحتية المادية في الوقت الحاضر ربما لا تزيد على خُمس حصة الفرد فيها عشية اندلاع الحرب العراقية – الايرانية، حيث قُدرت كلفة البنية التحتية آنذاك بحوالي 35 مليار دولار. وإعادة تاهيلها في ضوء التطورات الديموغرافية الراهنة، حيث يبلغ سكان العراق في الوقت الحاضر 34 مليونا، يتطلب استثمار مبالغ لا تقل عن 250 مليار دولار.
اللافت للنظر ان معدلات النمو، في الناتج المحلي الاجمالي، الراهنة الموجبة لا يمكنها تعويض معدلات النمو السالبة في تراكم الثروة الوطنية المادية ما لم تتوافر تراكمات مالية قوية بأي مستوى مطلوب لتسريع عملية اعادة التأهيل وبناء رأس المال الاجتماعي الثابت في العراق، لأن تدفق الدخل الوطني الناجم عن الاستثمار في الموارد الطبيعية ما زال يقابله نمو سالب في الخزين الثابت للثروة الرأسمالية المادية marginal negative stock وتدني الاستثمار فيه.
هذا الوضع أدخل البلاد في معادلة تمويلية صعبة تدفع بـه الى الجوء الى التمويل من السوق الدولية تحت اشكال مختلفة يتطلبها مشروع قانون البنى التحتية وعلى رأسها ما يسمى بالدفع الآجلdeferred payment، الذي يعني التأخير المتعمد بالدفع للجهات الدائنة، سواء عند الشراء او الاقتراض او غيره. وبغية حل تلك المعادلة التمويلية الصعبة، ينبغي التعرف على مقياس الرافعة المالية للعراق او طاقة الدين العام، التي تمثل نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالي كمقياس لتلك الرافعة. وهذا لتوفير معيار لبيان القدرة على ادامة الدين، اي تحمل الدين دون ان يؤثر على صحة او سلامة النمو الاقتصادي في البـلد.
فالمقياس المعتمد لدى المؤسسات المالية الدولية متعددة الاطراف في تحليل تحمّل طاقة الدين DSA يعني انه عندما يكون البلد المدين محتفظا بالقيمة الحالية الصافية للدين NPV (اي العائد المتوقع عن الاستثمار بالدين مخصوم منه سعر الفائدة يساوي كلفة الدين نفسه او اكبر منه)؛ وعليه ينبغي توافر النسب الاتية التي تعبر عن السقوف القصوى للسلامة الاقتصادية: 60 بالمئة دين عام/ الناتج المحلي الاجمالي؛ 150 بالمئة دين عام/ صادرات البلد؛ 250 بالمئة دين عام/ ايرادات البلد من العملة الاجنبية.
هذا شريطة ان يكون نمو الدين السنوي بنسبة لا تتعدى 3 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي لضمان اقتصاد مولّد للنمو والفائض.
عند النظر الى وضع العراق، يمكن القول ان البلد عموماً ما زال في مستوى آمن، وما زال يتمتع بنسب معيارية قدرها 35 بالمئة و57 بالمئة و65 بالمئة على التوالي، ما يشير الى قدرته على التمويل عن طريق السوق الدولية وفق اساليب التمويل المختلفة، بما فيها الدفع الآجل.
واستنادا الى اتفاقية نادي باريس الموقعة فـي 21 تشرين الثاني 2004، التي تـم بموجبها خصم 80 بالمئة من ديون حكومة جمهورية العراق، التي قدرت في وقتها بحوالي 125 مليار دولار، فان صافي المديونية الخارجية والمتبقي من تعويضات حرب الكويت والدين العام الداخلي، التي يقدر مجموعها في الوقت الحاضر بحوالي 50 مليار دولارا (موزعة بواقع 10 مليارات دولار تعويضات حرب الكويت وهي من اصل 53 مليار دولار وحوالي 30 مليار دولار بقايا اعادة جدولة الديون الخارجية والديون غير المحسومة حتى الوقت الحاضر المستندة جميعها الى بنود اتفاقية نادي باريس، وحوالي 10 مليار دولار دين عام داخلي)، وهي تشكل في مجموعها نسبة 35 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي.
للعراق اذا قدرة كامنة على الاقتراض او تحمل دين اضافي قد يساوي 25 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي (البالغ حوالي 140 مليار دولار للعام 2012) واكثر من 35 مليار دولار اضافي يمكن اقتراضها لتصل الى نسبة 60 بالمئة، وهي تماثل سقف الدين العام المحتمل الى الناتج المحلي الاجمالي، اي طاقة تحمّل الدين القصوى.
إن اقتراض 35 مليار دولار لا يبتعد كثيرا عما ورد في احكام المادة 3 من مشروع قانون البنى التحتية، التي نصت على ان (لا تزيد مبالغ العقود المشمولة باحكام هذا القانون على 37 مليار دولار).
الصندوق السيادي الغاطس وضمانات الدفع الآجل
تعد الصناديق الغاطسة في المالية الحديثة وسيلة تُمكّن المنظمات بموجبها وضع جانب من المال وتجميعه بمرور الوقت لاطفاء ديونها، اي انها أموال مودعة تستخدم عند الحاجة لإطفاء دين او انها مودعة جانباً لإحلال كلفة المعدلات الرأسمالية عند اندثارها بما فيه الاندثار الفني او التكنولوجي.
تُمكّن الصناديق الغاطسة منظمات الاعمال من اعادة شراء ديونها او سنداتها المصدرة كلا او جزءا بأسعارها السائدة او بأسعار تفضيلية. وتحسب الميزانية العمومية للصناديق الغاطسة على اساس ان الصندوق الغاطس يساوي الموجودات، وان الديون او السندات المصدرة تماثل المطلوبات. ولما كانت البنية التحتية الوطنية تمثل صافي ثروة ذات نمو صفري او سالب او ما يسمى احيانا بالخزين المادي الحدي السالب، فأن تدفق الدخل، لاسيما عوائد النفط، لا يكافئ الخزين الحدي السالب من الطاقة المنتجة للبلد.
وان اعادة بناء خزين حدي مادي موجب تقتضي توافر تراكمات مالية عالية تفوق قدرة البلد الراهنة على الادخار المرغوب بما يوازي الاستثمار المرغوب.
ان تحقيق ادخارات مرغوبة توازي الاستثمار المرغوب في البنية التحتية المادية ومختلف طاقات الانتاج لا بد من ان يدفع الى الاقتراض لاغلاق الفجوة التمويلية وتقوية الرافعة المالية للبلاد لقاء خيارين يمثلان المعادلة الصعبة في تنمية العراق.
الخيار الاول: قبول قطاع مقاولات اجنبي مغامر يقبل بفرضية مخاطر البلدان بسبب إفرازات الفصل السابع وفرضية الأمم المتحدة، التي ما زالت ترى وللأسف الشديد ان العراق بلد معتد على السلام العالمي ما يبيح استخدام القوة ضده، وهو الأمر الذي جعل قطاع المقاولات الاجنبي يضيف كلفة على مقاولاته تسمى كلفة العراق Iraq cost، التي تفرض جزافاً على كلفة المقاولات لتبلغ احياناً بين 35 الى 45 بالمئة من كلفة تنفيذ المقاولة الاجنبية في الظروف العادية.
الخيار الآخر: بغية تفادي قيود الخيار الاول، يُقدم قطاع المقاولات الاجنبية عرض تمويل مقاولاته عن طريق الدفع الآجل المشروط او المربوط بتنفيذ المقاولة عبر حلقة تكاملية تمثل كلفة تمويل غير امتيازي او شبه امتيازي، أي قليل او منخفض الفائدة، شريطة تنفيذه من الشركات المقاولة المؤتلفة مع جهة التمويل. ويوفر الأنموذج الاخير وفورات او ارباح غير منظورة للجهات المنفذة او الممولة ربما تكون اقل كلفة من الخيار الاول في حالة ضعف الضمانات؛ وعند توافر ضمانات سائلة كافية فأنه سيكون الخيار الاقل كلفة حقا.
إن المخــرج الصحيح في التنمية والاستثمار في البنية التحتية يتطلب تخطي المعادلة الصعبة للمرحلة الراهنـة، التي يفرضها الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، من تبعات ومخاطر اقتصادية مترتبة عليه تقتضي انشاء صندوق سيادي غاطس يغذى دوريا بتخصيصات مشاريع البنية التحتية في الموازنة الاتحادية ويعوض باستمرار عند السحب منه لإطفاء القروض الجسرية، التي توفرها الشركات المقاولة الاجنبية المؤتلفة وباستمرار لضمان التنفيذ والتمويل بصورة متواصلة في تنفيذ أعمال المقاولات في العراق بما يضمن توقيتات وكفاءة الانجاز. ويُعد الصندوق أنموذجاً مستحدثاً يولد تكامل تمويلي سائل يوازي سحب استحقاقات القروض الجسرية المقدمة من الجهات الدولية المؤتلفة المنفذة للمشاريع بصورة دورية ما يقلل كلفة الاقتراض ويحوله الى دين امتيازي اقرب الى التسهيلات المضمونة بتدفقات سائلة يوفرها الصندوق الغاطس.
* نائب محافظ البنك المركزي العراقي
يومية العالم
http://www.alaalem.com/index.php?aa...