ثلاثة اسئلة أحاطت بالرائدة الراحلة نازك الملائكة منذ قصيدتها الكوليرا التي يؤرخ بها للشعر العربي الحديث، كونها امرأة، ومن عائلة محافظة، ومن العراق، ولكل من هذه الشروط الثلاثة دلالاته،
فالمرأة في اربعينات القرن الماضي، وبالتحديد في عالمنا العربي كانت تعاني من اقصاء ذكوري في كل المجالات، لهذا علقت مثقفة عربية علي ريادة قاسم أمين لتحرير المرأة قائلة بأن تحريرالمرأة لا يناط بالرجل ، وتمنت لو ان امرأة عربية أخذت مكان قاسم أمين، كما ان سيدة اخري وكانت ناشطة في المجالين التربوي والاجتماعي تقدمت بطلب رسمي لحذف نون النسوة من النحو العربي.
والشرط الثاني وهو انتماء نازك الي عائلة عراقية محافظة، فهو يضاعف من صعوبة دورها، لأن الحداثة لا تفرزها بيوت الدمي اذا استعرنا العنوان الشهير لمسرحية هنريك ابسن، وقد يفسر هذا الشرط الي حد كبير تردد نازك الملائكة ازاء الحداثة الشعرية، وحرصها الاكاديمي علي ان تكون لهذه الحداثة حدود.
والشرط الثالث، وهو كونها عراقية، قد يبدو الان شاحبا، وقليل التأثير، لكن المصدات الكلاسيكية للتحديث في بعض الاقطار العربية ذات القلاع التراثية المحافظة، قد لا يعاني منها من ولدوا علي شواطيء المتوسط حيث الاتصال بالغرب بدأ مبكرا، وقبول التغيير او التأقلم معه علي الأقل أيسر من تلك العواصم التي وصف جاك بيرك بعضها بأنها غمد الصحراء...
وتشاء المصادفة ان يطول احتضار الشاعرة نازك في منفاها الذي بدأ طوعيا وانتهي قسريا وكأنه المعادل الرمزي لاحتضار الثقافة العربية والحداثة بوجه خاص، فالشاعر الذي اقترن اسمه بها وهو بدرشاكر السياب مات في السابعة والثلاثين من عمره، بعد مكابدات عسيرة للمرض، وقد عاشت نازك الملائكة بعده خمسة وأربعين عاما، لم يصدر لها خلالها ما يضيف الي تجربتها الشعرية او نظريتها الجمالية في الشعر الشيء الكثير، وتلك بالطبع مسألة أخري، نرجيء الكلام حولها الي ما بعد هذه المناسبة.
ہہہ
ان لي قصة مع كتاب الرائدة الراحلة نازك قضايا الشعر المعاصر ، ومعها ايضا لا بد ان تروي في هذه المناسبة، فحين قرأت كتابها لأول مرة وكنت طالبا في الجامعة استوقفتني فيه مقاطع من قصيدة لشاعر لم أكن اعرفه، وكان المقصود باستشهاد الشاعرة بتلك المقاطع فك الاشتباك نقديا وجماليا بين الشعر والنثر، وانتهت بعد تعليق قصير علي تلك المقاطع باعتبارها من خارج ملكوت الشعر، وانها مجرد نثر قد يكون فنيا او جميلا لكنه لا يرقي الي الشعر...
كانت تلك المقاطع من قصيدة لمحمد الماغوط من ديوانه الأول، واذكر ان مقطعا من تلك القصيدة الآسرة والذي يتمني فيه الشاعر لو انه حانة من خشب يرتادها المطر والغرباء.. او لو انه صفصافة ترقص قرب الكنيسة، حال دون اكمالي قراءة الكتاب، ورحت ابحث عن ديوان الماغوط الي ان وجدته بل وجدت ضالتي فيه يومئذ...
هنا كانت المفارقة، وهي ان الشعر الذي يقدم نقديا علي انه نقيض الشعر، يتحول الي دليل للشعر، كي لا نقول الي فخّ جميل لاستدراج قاريء في بواكيره...
بعد تلك الايام التي كان السجال فيها حول الحداثة يحتل المقاهي، والارصفة بخمسة عشر عاما علي الاقل التقيت الشاعرة الراحلة نازك في جامعة الكويت، واعربت لها عن رغبتي في اجراء حوار مطول حول كتابها وتجربتها الشعرية والحداثة بصورة اعم، لكنني اخطأت مدفوعا بعنفوان الصّبا عندما رويت لها حكايتي مع كتابها، وكيف انني انصرفت عنه للبحث عن ديوان الماغوط، فقد أغضبها هذا بحيث رفضت الاستمرار في الحوار، وقد يكون هذا من حقها، لكن ليس من حقي علي الاطلاق اخفاء هذه الواقعة، خصوصا ونحن نودع الرائدة التي ندين لها بالكثير من الفضل حتي لو اختلفنا مع أطروحاتها المحافظة !
ہہہ
ان ما يغفله مؤرخو الادب هو من صميم مهنة نقاده، والاختلاف حول ريادة الشعر الحديث كان يتطلب اعادة تعريف للريادة والحداثة معا، خصوصا بعد ان تفلطحت المصطلحات وأتاحت ترجمتها واحيانا تعريبها فرصة للتلاعب بدلالاتها، والتعامل معها علي نحو اجرائي.
فالحداثة الشعرية ليست بعثرة للعمود واعادة انتاجه ايقاعيا، انها رؤيا بامتياز، وقد تكون لدينا غابة من القصائد ذات المعمار الشكلي الحديث، لكنها عمودية في الرؤيا والوعي.
وعندما تجري المقارنات بين الثالوث الشعري الذي تنافس النقاد في المفاضلة بين اضلاعه وهو نازك والسياب والبياتي، وأيهم الأجدر بلقب الريادة، تتسلل الي المشهد كوميديا من طراز خاص، ذلك لأن الخطأ المنهجي مزدوج، فالريادة ليست لشاعر أو شاعرة وليست لقصيدة بالتحديد.
انها منجز جيل، بشّر بحساسية جديدة، وتفاوتت أساليب شعرائه ورؤاهم فكريا وفنيا، وهنا أميل الي الدعوة مجددا لاعادة قراءة الشعراء الثلاثة... وذلك دفاعا عما اسميته حداثة الرؤي مقابل حداثة المعمار، لكن لماذا تقدمت نازك خطوة ثم نكصت خطوتين؟ هل كان ذلك احترازا من تحمل المسؤولية عما يقترف باسم الشعر الحديث من نظم رديء؟ ام ان طبيعة التكوين النفسي والاجتماعي والثقافي لشاعرة فرضت عليها مثل هذا التردد والنكوص؟
الاجابة متروكة بالطبع لكل مجتهد في النقد، ولكل من ينزع الي الحفريات كمقابل للنزوع المدرسي للتوصيف والقراءة الأفقية كبديل أدني للاستقراء!
وقد يكون من الادق البحث عن ريادات للشعر العربي الحديث وليس عن ريادة واحدة شاملة، لأن هذا يحررنا اولا من شَخْصَنة الظواهر ومن البطل الوحيد المشجب.
فالبياتي بشّر بحداثة غير تلك التي بشرت بها نازك او السياب، وهذا ما قاله د. احسان عباس في دراسته المبكرة عن البياتي، واذا كانت الريادة ريادات، فإن الحداثة ايضا تقبل مثل هذا التنوع، فهي حداثات حتي داخل الثقافة ذاتها وباللغة ذاتها ايضا، والسؤال الذي يفرض نفسه الآن بعد عدة عقود من رحيل السيّاب وصدور كتاب نازك الملائكة هو علي أي جذر من تلك الحداثات نبتت الشعرية العربية الجديدة، خصوصا بعد ان تعددت التيارات وتخللها هاجس التجريب، وأصبح كل شاعر معنيا بهذا القدر او ذاك بذكر اسم ابيه الذي أطاعه او سعي الي قتله!
ہہہ
الشاعرة نازك باغتها الخريف المبكر جسديا وعانت من مرض فرض عليها عزلتين، عزلة ثقافية ابداعية، وأخري اجتماعية حياتية، وكان غيابها الطويل مأساويا حتي بالنسبة لمن توقعوا منها في سنوات النضج اضعاف ما أنجزت في اعوام الصّبا، وحين رحلت نازك كانت بغداد أبعد ما تكون... لا عنها فقط بل عن بغداد ذاتها، فالعراق الذي قال السياب ان شمسه اجمل، وكذلك ظلامه لأنه يحتضن العراق، احتجبت خلف الغبار والدخان المتصاعد منه مشاهد ثقافية وابداعية في مختلف الفنون، وحين أحصي خبراء الموت خسائر العراق، حذفوا منها نازل الملائكة وجواد سليم وبدر السياب وسلالة لا آخر لها من المبدعين، حتي ان مؤسسة ثقافية عربية اصدرت موسوعة عن الفن التشكيلي خلت من رواده العراقيين، فالزمن تفترسه ثقافة الاقصاء والابادة الرمزية، وما كان للتو جريمة قتل الآباء تحول بفضل الكومبرادور الجديد الي جريمة قتل القبيلة كلها ثم ابادة الدولة!
ولم تكن نازك وحدها التي اغمضت عينيها لآخر مرة علي غير شمس العراق وليله، فقد سبقها السيّاب الذي عاد في تابوت من أحد مستشفيات الكويت، وصلي عليه اثنان او ثلاثة في أحد مساجد البصرة، في اليوم الذي كان أثاث منزله قد طرح للبيع في المزاد...
وقبل عامين من رحيل نازك، قُتل محمود البريكان في بيته وهو قد تجاوز السبعين، مثلما مات شعراء آخرون في المنافي علي اختلافها وكان البياتي الذي حوّل المنفي الي موضوعة شعرية بامتياز قد رحل هو الآخر ليدفن بالقرب من ابن عربي، الذي قال له قبل اللقاء بعقود:
بعيدة دمشق
قريبة دمشق
من يوقف النزيف في ذاكرة المحكوم بالاعدام قبل الشّنق؟
ہہہ
قد يختلف النقاد تبعا لثقافاتهم وتعريفاتهم للحداثة حول المنجز الجمالي والشعري لنازك الملائكة، لكنهم قد يأتلفون حول كونها علامة بارزة في تاريخ الشعرية العربية، فهي ذات اسهام جذري في الريادة ان لم تكن الرائدة، وقدمت في أربعينات القرن العشرين مثالا ساطعا لامرأة تعاني من عدة حصارات استطاعت ان تتجاوز وتتخطي، وان تخرج من بيت الدمية لا من خلال الجامعة فقط، بل من خلال احداث تغيير في ديوان العرب الذي كان قبلها ذكوريا بامتياز، الي الحدّ الذي دفع احد الشعراء الجاهليين الي أن يزهو علي سواه من الشعراء بأن شيطانه الذي يلهمه الشعر ذكر، وشياطينهم إناث!
واذا كانت نازك قد قاومت المرض لعقود فإن عراقها يقاوم أيضا، ولا يمكن لمؤرخ او شاهد أن يحذف الشعر العراقي من خلايا المناعة التي تتصدي للوباء.