المحاصصة بعارها وشنارها، لم تفرض العيساوي الطبيب وزيرا للمالية، والأديب الحزبي البعيد عن عالم الأكاديميين وزيرا للتعليم العالي فحسب، بل فرضت الدليمي، وزير الدِّفاع السَّابق، وزيراً على الثَّقافة.
جاء تشكيل الوزارة العِراقية الجديدة، بعد مخاض عسير، مخيب للآمال، بل ومكذب لِما أملَ به رؤساء الكتل السياسية الشَّعب العِراقي، في أن تكون وزارة إنجاز، بعيدة عن المحاصصة وتأليف القلوب على حساب معاش النَّاس وأمنهم. صوتَ البرلمان على الوزراء بالجملة، مِنْ دون التَّعريف بخبراتهم العلمية والعملية، حيث لم يؤخذ بالحسبان وجه التَّناسب بين الوزير والوزارة. بدت أقل شأناً مِنْ أول وزارة يشهدها العِراق، في 27 تشرين الأول (أكتوبر) 1920، بعد تحوله مِن إقليم عثماني إلى دولة.
فقيل إن رئيس الوزراء عبدالرَّحمن النَّقيب (ت 1927)، وهو فقيه ونقيب لأشراف بغداد ليس له في الهندسة ولا الحقوق، حرص أن يجمع في وزارته أبناء العائلات تأليفاً للقلوب واعتباراً للصلات الشخصية. فلما اعترض المندوب السَّامي البريطاني على أحدهم، برر له النقيب قائلاً: "مولاي إنه ابن فلان، وجده فلان، فبأي وجه أقابل أجداده في العالم الآخر إذا لم أدخله الوزارة" (العمري، حكايات سياسية!).
مع ذلك ضمت الوزارة ما يُعرف بالتكنوقراط، فساسون حسقيل (ت 1932) كان ذا كفاءة عالية في إدارة المال، ويكفينا ما قاله فيه الرَّيحاني (ت 1940): "ليس في العِراق مَنْ يضاهيه في علم الاقتصاد أو التَّضلع في إدارة الشؤون المالية..." (بصري، أعلام السياسة). أتت إدارة ساسون للدولة العِراقية بفضائل جمة، في مجال النِفط وتنظيم الإدارة المالية. لكن هل تمكن ساسون مِنْ ذلك لولا نزاهة مليكه، وحرصه الشَّديد على تقدم البلاد، فقصة اعتراضه على زيادة مخصصات الملك ورضوخ فيصل الأول (ت 1933) لاعتراض وزيره بأريحية عالية واقعة معروفة، وذاك ما يبقى درساً لمَن تنقصهم النَّزاهة.
لم آت بمثال ساسون، ولا بمثال محمد حديد (ت 1999)، في العهد الجمهوري وزيراً للمال، وهو أهلاً لذلك، لأحط مِنْ منزلة نائب رئيس الوزراء السَّابق ووزير المالية الحالي طبيب العِظام رافع العيساوي، فحقاً أنا معجب بأداء الرَّجل، وما فيه مِنْ تألق عراقي، وأسجل له وقفته بوجه ذلك المذيع النَّزق، في إحدى الفضائيات المحرضة، عندما لامه على عدم دعم ما كان بالفلوجة مِنْ مقاومة، فأجابه: نحن أعرف ببلادنا، فهناك إرهاب لا مقاومة. وهذا ما لم يفعله أي سياسي عراقي آخر عند لقائه في تلك الفضائية.
لكن ما لطبيب العِظام ووزارة المال، ستقولون إن منصب الوزير سياسي، والمستشارين والوكلاء وبقية الموظفين هم العاملون! نعم، يكون ذلك صحيحاً ببريطانيا واليابان لا بالعراق، وحتى أولئك المستشارين والوكلاء، هم متحاصصون وليسوا أهل كفاءة وخبرة، في الأعم الأغلب؟ لولا المحاصصة لكان العيساوي وزيراً للصحة، أو يبقى داخل البرلمان، يترأس اللجان التي تشرف على صحة الأبدان والعقول.
كان عذر الوزارة العِراقية الأولى (1920)، وهي، مثلما قدمنا، أتت بوزراء لتأليف القلوب، وأتت بوزراء محترفين، مثل ساسون وجعفر العسكري (قتل 1936)، فالأخير حقاً يليق بوزارة الدِّفاع وتليق به، وهو الاسم الثَّاني، بعد الملك فيصل الأول، سجل اسمه جندياً في الجيش العِراقي (خالص، ذاكرة الورق)، ومع ذلك ما كان يسد ثغرة تعيين فقيه وزيراً للصحة والمعارف مثلاً هو وجود المستشارين البريطانيين، فكانوا في حقيقة الأمر حتى 1932 تقريباً يوجهون الوزارات، حتى استقر الحال، وعاد الفنيون التكنوقراط وتسلموا وزارات البلاد، فعاد محمد فاضل الجمالي (ت 1998) وتسلم أمر المعارف، وهو اختصاصه، وعاد عبدالكريم الأُزري (ت 2010) وتسلم وزارة المالية، وهو اختصاصه، وعاد عبدالغني الدَّلي (ت 2010) وتوزر الزراعة والرَّي، وهو شأنه أيضاً.
وعاد عبدالأمير علاوي (ت 1998) وتسلم وزارة الصحة، وهي شأنه. وتسلم سعيد قزاز (أُعدم 1959) وزارة الداخلية ومازالت بغداد تتذكره في درء أخطر فيضان هاجمها به دجلتها سنة 1954، وما له مِن مساعٍ في تكريس الوحدة العِراقية، حتى قال كامل الجادرجي (ت 1968): "إن موقف سعيد قزاز من الفيضان 1954 وحده يشفع له" (ذاكرة الورق)، لكن الله لن يغفر لمَن أصر على إعدامه لثارات قديمة. ومع ذلك لست بعيداً عن الواقعية ففي هذا العهد توزر الكثيرون لتأليف القلوب أيضاً، لكن ليس بهذا البعد الهائل عن اهتماماتهم واختصاصاتهم.
ومثلما لا اعتراض لدينا على شخص وزير المال رافع العيساوي إلا لأنه طبيب، ولا شأن له بالمال، نقول لماذا السِّياسي علي الأديب وزيراً للتعليم العالي والبحث العلمي، والرَّجل، ولعلي مخطئ، ليس له بالعمل الأكاديمي ولا بالبحوث مِنْ شأن، فهو كائن حزبي، خرج مِن العراق إلى إيران وأخذ جنسيتها، واعترض على الدُّخول الأميركي، ثم دخل مع بقية الدَّاخلين، والرَّجل يبدو متشدداً دينياً خال مِن مرونة الأكاديمي والباحث.
أعُقمت جامعات العِراق مِن أن يترشح لهذا المنصب رئيس جامعة، أو رئيس مركز بحوث مرموق، يعرف لغة العالم الغربي، كي يتعامل مع التَّطور الأكاديمي العالمي! لكنها المحاصصة بعارها وشنارها، لم تفرض العيساوي والأديب فحسب بل فرضت وزير الدِّفاع السَّابق وزيراً على الثَّقافة، مثلما فرضت مِن قبل ضابط شرطة عليها، وخطيب مسجد، وقيل إنه مهندس وخطيب! مع علمنا أن سعدون الدِّليمي رجل لا عيب فيه كشخص ولا ثلمة في نزاهته، لكن هل خلا العراق مِن فنانيه وأدبائه ومثقفيه ليتوزر وزارتهم، وهي المبتلية باللاثقافة.
كان تشكيل الوزارة مفاجأة سيئة، فإضافة إلى المحاصصة، تأتي العنصرية في إبعاد النِّساء، بما هو تنازل عن الوزارات السابقة، ويشي بالسير نحو تثبيت الدَّولة الدِّينية، وهذا ما يبدو أن كافة القوائم تخضع له، ومنها ما كان يُفكر بها كحائل دون تحقيق تلك الدَّولة العنصرية حقاً. كلُّ هذا عرض مِن أعراض المحاصصة التي تحول بين البلاد وأبنائها الأكفاء. وضياع الأكفاء هو ما حذر منه سابقاً الشِّيخ محمد جواد الشِّبيبي (ت 1944) عندما قال في قصيدته "عِبر الزَّمان": "وا ضيعة الأكفاء بعد مناصبٍ.. حُفظت مقاعدها لغير كفاةِ" (الغبان، المعارك الأدبية). هذا، وهناك مِن الوزراء الجدد مَنْ فيه خذلان البلاد بتوزيرهم، وما يحزن القلب ويعف عنه القلم! أما المناصب الأكبر فتراها توزع لإلفة القلوب، مِن نيابة رئيس الوزراء إلى نيابة رئيس الجمهورية! فالأغلب على ما يبدو "مؤلفة قلوبهم"، عواطفهم بالعِراق عبر المنصب ومنافعه!