ما يحصل بالعراق اليوم هو هدم الحدود بين المسجد أو الحسينية والدَّولة، ومحاولة الإسلام السياسي المحافظة على التَّدني بممارسة الدِّين، فهي فرصة لشد الدَّولة وربطها بالحسينية أو المسجد. كانت الحملة الإيمانية، التي أُعلنت في منتصف التسعينيات، تجمع بين أمرين: مسايرة طغيان التَّدين الشَّعبي في المجتمع العِراقي، بسبب الحروب والحصار، ونقول التَّدين الشَّعبي لأنه كان خارج المعتاد، بعد دخول الشَّعوذة والتَّطرف، وهذا الهيجان الذَّي نراه في المناسبات الدِّينية وظاهرة الانتحاريين والانتحاريات كله يصب ضمن خروج التَّدين عن المعقول إلى اللامعقول، والثاني مجابهة التَّدين السِّياسي الذَّي منه كان منتظراً على الحدود لاستغلال فرصة الوثوب، ومنه داخل البلاد. وربما لا يُسر الكثيرون عندما نصف صدام حسين (أُعدم 2006) بالمتدين، لأنه،
وحسب منطق الإسلام السياسي أن خصمهم يجب أن يكون كافراً، لكني أرى شأنه شأن الحَجَّاج الثَّقفي (ت 95 هـ) كان متديناً، وجزء مِن تدينه، حسب فهمه، هو إخلاصه للخليفة، وأحد الشواهد، على الرَّغم مِن سفكه للدِّماء، أنه "كان يقرأ القرآن كلِّ ليلة" (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ، وابن كثير، البداية والنِّهاية)، واتيت بهذين المصدرين لأن صاحبيهما مِن أشد المؤرخين بغضاً للحَجَّاج. كذلك مِن وجهة نظر صدام والحَجَّاج أن خصومهما كفار، وهكذا يراد للدِّين أن يكون تابعاً للسياسة. وما حصل مع محمد النَّفس الزَّكية (قُتل 145 هـ) يكفي شاهداً: عندما ثار بالمدينة طالباً الإمارة، وأُتي برأسه، أخذ القوم ينسبونه إلى الكفر، حتى "أقبل عليهم قائد لهم، فقال: كذبتم والله، وقلتم باطلاً، لما على هذا قتلناه، ولكنه خالف أمير المؤمنين، وشقَّ عصا المسلمين، وإن كان لصواماً قواماً، فسكت القوم" (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك). أقول مَنْ يحدد القرب والبعد عن الدِّين! ومَنْ يُحدد الحق بدخول الجنَّة، أهو المقتول لأنه شق عصا الطاعة أم القاتل الذي يدافع عن إمارته التي يراها حقاً! فإدخال الدِّين طرفاً تعترضه ثوابت الدِّين نفسه، فلابد مِن التمييز بين مهمات المسجد وهو الدِّين الذَّي كان يصلي فيه النَّفس الزَّكية وأبو جعفر المنصور، ومهمات دار الإمارة، وهي السياسة التي تقاتل الاثنان مِن أجل نيلها، مع اختلاف المبرر! لستُ معنياً بمَنْ يرضى ومَنْ لا يرضى، فكلُّ الدلائل تشير إلى أن صدام اتجه للتدين، وليست كلُّ المظاهر التي كان يظهر بها مراءاة، فكان قراره بغلق النوادي الترفيهية، ومنها نادي اتحاد الأدباء (1994) هو جزء مِن ممارسة هذا التَّدين ومحاولة فرضه على الآخرين لأنه يمتلك القوة، وأرى مجالس المحافظات التي تبنت القرار نفسه (رقم 82) التي يدير أغلبها حزب الدعوة اليوم، منذ الانتخابات المحلية (أوائل 2009)، تنطلق مِن المنطلق نفسه: مجاملة التَّدين الشَّعبي، مهما كان مشوهاً، وتحقيق ما في دواخل النَّفس مما تركته ثقافة التَّدين السياسي، التي انحصرت في مقولات مرجع الإسلام السياسي سيد قطب (أُعدم 1966)، وهي ثنائية أخرى مع مَن يكون الحق مع قطب أم مع الذَّين أعدموه! لستُ قاضياً لأحدد براءة قطب، لكن مِن المؤكد أن الذَّين أعدموه يرون فيه ما رأى قاتل النَّفس الزَّكية، أنه قوام صوام، لكنه حاول إلحاق الدَّولة بالمسجد، وجعل الإيمان لنفسه ومَن يتبعه، ولهذا تراه أطلق على المجتمعات التي تعيش الثورات العلمية، وأرقى ما توصل إليه عقل الإنسان، صفة الجاهلية، يجب الانقضاض عليها، وما يتحمله الشباب مِن وزر التفجيرات، وكل الجهاديين التكفيريين استعاضوا عن ثوابت الدِّين بحاكمية قطب ليجمعوا قسراً بين المسجد والدَّولة، فنرى الموت الجماعي والتكفير جاريين على قدم وساق. كذلك ينطبق الحال على ثنائية السيد محمد باقر الصَّدر (أُعدم 1980) وصدام حسين، أن الأول حاول نزع المُلك بالثورة الإسلامية، مِن دون تقدير الحال، وكان تحت مؤثر الانتعاش بالحدث الإيراني، ومع اعتقادي بأن الصَّدر ليس مِن طُلاب السُّلطة، ولعل سيد قطب مثله، لكنهما أخطآ التقدير، وهو أن يكون تحول المجتمع بمجرد الثورة إلى مجتمع إسلامي. وهنا أود التمييز بين الإسلامي والمسلم، فلم يسم أبو الحسن الأشعري (ت 324 هـ) كتابه في الفِرق الدَّينية باسم "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"، إلا بقصد التمييز بين الإسلاميين والمسلمين. لكن الإسلاميين اليوم لا يريدون، وأعني العراقيين، للمدن العِراقية إلا هوية إسلامية، لا مسلمة فيها ثنائية الفقيه والموسيقي. فالإسلام حضارة ومدنية، والمنتسب إليه يُعرف بالمسلم لا بالإسلامي، ولم ترد في آي القرآن ولا متون الحديث مفردة إسلامي أو إسلاميين بل وردت "أُمَّةً مُسْلِمَة". فليس مِن حق مجالس المحافظات، التابعة لحزب إسلامي لم يتنصل عن مطلبه الأول بقيام دولة إسلامية بشتى الطرق ومنها ركوب الدِّيمقراطية مطيةً لنيل الإمارة، أن تعلن المدن العراقية على أنها إسلامية، وكأن كلَّ سكانها هم أتباع الإسلام السياسي. ما يحصل بالعراق اليوم هو هدم الحدود بين المسجد أو الحسينية والدَّولة، ومحاولة الإسلام السياسي المحافظة على التَّدني بممارسة الدِّين، فهي فرصة لشد الدَّولة وربطها بالحسينية أو المسجد، وعندما يمارس الضغط على الآخرين، فهو ينطلق مِن مبدأ الهيمنة السِّياسية، لأنه لا بضاعة له سوى هيجان التَّدين. لكنه لم يلتفت لما يصاحب هذا التَّدين عادة مِن حالة الرِّياء والنِّفاق، وشأنه شأن استبدال العمامة بالطربوش، مثلما حدث بالدَّولة العثمانية غداة الثورة ضد عبدالحميد الثاني (ت 1918)، ويدور الدَّهر دورته ليستبدل الطربوش بالعمامة ثانية! "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ". مِن وجهة نظر الإسلام السياسي فإن العِراق في أوج تقدمه، لأنه عاد إلى التَّدين، وهذا ما نسمعه مِن تصريحات مسؤولين عبر الفضائيات، حتى أخذ أحدهم الغرور وصرح بأنه ليس مع الدِّيمقراطية مِن حيث النِّهج، إنما هي سبيل للوصول إلى الهدف، ومهمته المحافظة على سيل التَّدين مهما كان متدنياً. إنها الرغبة في هدم الساتر بين الحسينية والدَّولة، ونقل تقاليد الأولى إلى دوائر الثانية، أما ما يصاحب ذلك التدين من اضطهاد للغير باسم الدِّين، ووصول الفساد إلى ذروته، وأن العِراق في ظل هذا التوجه غدا لا يزرع ولا يصنع، فلا يهم الإسلام السياسي بشيء ما دامت الدِّيمقراطية، بدرجة انحطاطها، تضمن له الرئاسة! مع أنهم يعلمون أن مسؤولية المسجد ذكر الله، ومسؤولية الدولة تقديم الخدمات. أخيراً أيعلم، الذَّين يحاولون إلحاق الدَّولة بالمسجد، أن المسلمين الأوائل كانوا يشيدون دار إمارة ومسجداً لاختلاف المهام بين المؤسستين!
"الأتحاد" الأماراتية