من أطرف الشخصيات التي عرفتها في حياتي. حياته كلها عبارة عن ضحكة متواصلة. إنه الدكتور أبو فريد. أولى طرائف حياته أنه كلداني مسيحي شيوعي ولد وترعرع في الناصرية المسلمة الشيعية العريقة.
هرب إلى إيران على إثر إعدام يوسف سلمان يوسف "فهد" مؤسّس الحزب الشيوعي العراقي ورفاقه أعضاء اللجنة المركزية في آذار/مارس 1949. تنقل بين قرى إيران ومدنها كـ (فتاح فال) ليكسب قوته وليتخفى عن أعين الحكومة الإيرانية التي كانت تتعقب الشيوعيين. عبر منها إلى روسيا وتزوّج أم فريد الروسية، وأكمل دراسته الجامعية في موسكو، وحصل على ثلاث شهادات دكتوراه في اللغات الشرقية، ومارس التدريس في جامعات الاتحاد السوفياتي طيلة سنوات إقامته في روسيا. لكن "أبو فريد" لم يخلع عنه ثوب الناصرية أبداً، رغم كل هذه الحياة المزدحمة المليئة بالتغيرات والتنقلات والدراسات. حين تسمعه يتحدّث تخال أنه ترك الناصرية قبل أيام. خفيف الظل، يثير فيك الضحك، بمجرد أن ينظر إليك. عَلّم زوجته أم فريد لهجة أهل الناصرية. ونشأ ولداه فريد وعدنان في بيت عراقي، حتى لا تجد في لغتهما حرفاً دخيلاً واحداً من الروسية أو المغربية، لكنهما في الوقت نفسه يتحدثان الروسية لغة أمهما، ويجيدان المغربية كالمغاربة.
هاجر أبو فريد من روسيا إلى المغرب، وسكن في مدينة القنيطرة التي تبعد عن الرباط العاصمة 30 كيلومتراً. الطريفة الأخرى في حياة أبو فريد أنه اختار أن ينشيء مدرسة ثانوية خاصة (اهلية) وتعاقد مع الحكومة المغربية على قبول الأحداث المطرودين من المدارس الحكومية لأسباب أخلاقية، ذكوراً وإناثاً على السواء، لتقويمهم وإعادة إصلاحهم وتأهيلهم. ويتندّر أبو فريد بذلك ويقول: "إن لدي صفوة التلاميذ المغاربة". وقد اختار لمدرسته اسم الشاعر الفرنسي "لافونتين". أما مبنى المدرسة فهو نفسه نكتة كبيرة؛ فهو ساحة واسعة جداً تغصّ بالسيارات المعطلة والمخربة التي يشتريها بأثمان بخسة من مزادات السيارات العتيقة، ليقوم هو وتلاميذه وتلميذاته بإصلاحها، ليُعاد بيعها وهي سليمة، ويتقاسم الأرباح بينه وبين تلاميذه المشاركين في الورشة، بالتساوي، يعني أن شيوعيته لم تفارقه قط.
ورغم بعد المسافة عن الرباط وعن الدار البيضاء، كانت مدرسة أبو فريد ملتقى العراقيين، رسميين وغير رسميين، مقيمين وزواراً. يقصده كل من لديه مشكلة. فهو الدائن الدائم لأغلبهم، وصندوق أسرارهم الأمين. وأذكر أن الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة نزلت في إحدى غرف المدرسة ورفضت الإقامة في أحد فنادق العاصمة، رغم أنها كانت ضيفة على الحكومة المغربية، وذلك طمعاً في أيام مرح لا تعوَّض في مدرسة "أبو فريد"، فأطلقنا على تلك الغرفة اسم "هيلتون أبو فريد". ولا أنسى تلك الأيام والليالي الفريدة التي كانت تثريها أم زكي بأشعارها وذكرياتها وطرائفها التي لا تنتهي، برقّتها الشهيرة ودقة ملاحظاتها وسرعة ردودها الأنيقة الراقية التي لا تصدر إلاّ من سيدة مجتمع عالية الجناب، طبعا مع تعليقات أبي فريد ونكاته التي لا تتوقف.
بعد الظهر بقليل من كل يوم ٍ صيفي حار يأمر أبو فريد بعض تلاميذه برشّ الفناء بالماء ورصف الكراسي حول الشجرة الوحيدة التي تتوسّط الساحة، استعداداً لاستقبال ضيوف سهرة الليل. وفي كل ليلة تتولّى أم فريد إشعال النار في منقل كبير، وتقطع اللحم والدجاج، ثم تنادي على زوجها: "أبو فريد قوم خط اللخم عالفخم". فيضحك أبو فريد ويقول ضاحكا: "أربعون سنة وما زال اللخم على الفخم". فقد كان من المستحيل على أم فريد الروسية أن تلفظ حرف الحاء حاءً بل تلفظه خاءً.
حين تدخل غرفة إدارة المدرسة يصيبك الذهول، فكلّ ما فيها آثار عراقية نادرة؛ كتب ووثائق رسمية، من الأربعينيات إلى أواخر السبعينيات، نقود ملكية وجمهورية، صور للملك فيصل الأول وغازي وفيصل الثاني وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر وصدام حسين.
وفوق هذا كلّه، تجد لديه على الدوام بضائع مهربة من القاعدة الأميركية في القنيطرة، يأتيه بها تلاميذ "صفوته" ليبيعها على ضيوفه بأثمانها الحقيقية، وبدون أرباح، خدمة للعراقيين الذين لا يجدون مثل هذه البضائع في الأسواق المغربية، وخاصة السجائر وأنواع المشروبات والأدوات الكهربائية المختلفة.
كان ابنه الأصغر عدنان في الرابعة عشرة، حين كنت أزوره في أواخر السبعينيات، وكان عاطلاً مزمناً عن العمل والدراسة، ومتفرغاً لملاحقة الفتيات والمتاجرة بالبضائع المهربة. وفي إحدى زياراتي للقنيطرة، همس عدنان في أذني طالباً مني دعوة والده ووالدته لزيارتنا في الرباط والمبيت ليلة في ضيافتنا. سألته: "لماذا؟". فقال: "والله يا عم مللت من لقاء صديقتي في الغابة، وأريد أن ألتقي بها في المنزل". في تلك الأثناء كان والده يراقبه، لكنه لا يسمع ما يقول، فسألني: "ماذا يريد؟". فقلت: "إنه ملّ من لقاء صديقته في الغابة، ويريد أن يدعوها إلى المنزل ". فناداه وراح يؤنبه قائلاً له: "إلى أن بلغ عمري الأربعين وأنا أقابل صديقاتي في الغابة، وأنت، من هسه تريد تجيبها عالبيت؟".
وذات يوم جاءتني أم فريد تشكو زوجها قائلةً، بلغتها العراقية الروسية: إن بعض صديقاتها المغربيات أبلغنها بأنهن رأين "أبو فريد" وهو يحمل ثلاث فتيات صغيرات في سيارته، وهذا لا يليق به كدكتور وأستاذ. وقالت: "لأنه يخترمك ويخبك ويستخي منك أرجو أن تفاتخته وتنصخه". فوعدتها خيراً. كانت أم فريد في أواسط الستينيات، وأبو فريد في السبعين من عمره، وهي برغم ذلك تغار عليه وتصدّق أن الفتيات ما زلن يجرين وراءه.
في المساء، ونحن على طاولة العشاء، فاتحت أبو فريد بالأمر، وقلت: "عيب عليك، وأنت في هذه السن وبهذا المركز والمقام، أن تجري وراء الفتيات". كنت أراقب أم فريد فرأيتها وقد تهللّت أساريرها فرَحاً، ثم واصلت حديثي: "ثلاث فتيات يا أبو فريد؟ واحدة تكفي يا رجل". ومن يومها وأم فريد لا تطلب مني أية مساعدة في هذا الخصوص!