ويضيف “وأحسب هنا أنه إذا لم يبق الأمريكيون في العراق لوقت طويل ومعقول، فإن سائر المنظومة المتوقعة ستكون في مواجهة خطر كبير” . وبهذا يعني كيسنجر بأن الحضارة الغربية حضارة واحدة وإذا انهارت أمريكا سوف ينهار الغرب بالكامل . ويشير إلى أن فشل أمريكا في العراق هو فشل للمنظومة السياسية والعسكرية والاقتصادية الغربية ومع ذلك رغم مرور نحو سبع سنوات على غزو العراق فإن الولايات المتحدة ما تزال مقتنعة بإمكانية تثبيت الأمن وإنشاء عراق جديد، لكن لا شك أن زمن النصر قد فات وأن الخسارة باتت ماثلة للعيان يراها القاصي والداني، وقد تكون هذه الحقيقة صعبة على الولايات المتحدة . إلا أن اعتراف وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس على إصرار البنتاغون سحب 50 ألفاً من القوات الأمريكية من العراق وفق البرنامج المقرر قبل نهاية شهر أغسطس/ آب 2010 في سياق الانسحاب الكامل للقوات قبل نهاية عام 2011 لأن البقاء في العراق يعني المزيد من الخسائر في الجنود والمعدات وعلى ما يبدو، فإن الولايات المتحدة بدأت تتعلم من أحداث التاريخ والتي تؤكد استحالة كسب المعركة على نطاق ضيق كما هو الحال في العراق الآن .
ومن أجل كسب المعركة على نطاق ضيّق، يجب أولاً كسبها على نطاق واسع، ولكي تنجح الولايات المتحدة في العراق، عليها أن تحتل جميع الدول المحيطة به، وعليها أن تُخضع روسيا والصين . ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال حرب عالمية . والإمبراطوريات عبر التاريخ كانت تخسر في الحروب المحدودة . وربما هذا هو الأمر الذي دفع الاسكندر المقدوني خلال فتوحاته في الشرق في القرن الرابع قبل الميلاد إلى الإصرار على فتح كل المدن والقلاع التي تعترض طريقه . وقد استعصت مدينة صور الفينيقية عليه، وكانت عبارة عن جزيرة في البحر، فأمر بردم البحر وبناء جسر يصل إلى الجزيرة، ومن ثم حاصرها شهوراً طويلة وفتحها عنوة وقتل نحو ثلاثة آلاف من رجالها لكي لا يتركها خلفه وتنقص عليه نصره وفتوحاته .
وفي العصر الحديث، فإن التغيرات العالمية الكبيرة لم تحدث إلاّ بعد الحربين الكبيرتين (الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية) . فعندما انتصر الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا والولايات المتحدة) في الحرب العالمية الأولى، استطاعوا إخضاع العالم أجمع، لأن جميع بلدانه كانت مفتوحة أمام قواتهم وجيوشهم، ولم تكن هناك قوة أخرى تستطيع أن تواجههم وتقف في طريقهم . ولذلك أنشأوا ما شاؤوا من الدول، ورسموا حدودها وأقاموا بها حكومات تابعة لهم . وفي الحرب العالمية الثانية، انتصر الحلفاء (الولايات المتحدة وبريطانيا) لكن انتصارهم جاء بعد خراب ودمار عم أوروبا ومعظم مناطق العالم . وقد تم تدمير ألمانيا وإيطاليا واليابان، وتم القضاء على أية مقاومة موجودة في هذه الدول . وكانت جميع الشعوب تئن من الدمار والجوع وقلّة الطعام والموارد، وكانت أيضاً تنشد الأمن والسلام . ولذلك هدأ العالم، واستكانت ألمانيا وإيطاليا واليابان لإرادة الدول المنتصرة .
لكن بعد انتهاء تلك الحرب، حدثت حروب محدودة بسبب الصراع بين المعسكر الشرقي السابق، وبين المعسكر الغربي . فقد تدخلت الولايات المتحدة في شبه الجزيرة الكورية عام 1950 بهدف وضع اليد عليها . فحدثت الحرب الكورية التي استمرت ثلاث سنوات وانتهت عام 1953 بتكريس انقسام شبه الجزيرة بين جنوب موالٍ للولايات المتحدة وشمال شيوعي موالٍ للاتحاد السوفيتي السابق . وقد خسرت الولايات المتحدة في تلك الحرب عشرات الآلاف من القتلى، وعشرات الآلاف من الخسائر في الطائرات والمدرّعات والسفن الحربية .
ومن ثم تدخلت الولايات المتحدة في فيتنام عام ،1965 ولكنها عجزت عن كسب المعركة أيضاً، وخسرت أكثر من ستين ألف قتيل، وآلاف الخسائر الأخرى في المعدات المختلفة، وانسحبت بعد عشر سنوات من دون تحقيق أية نتيجة . ومن ثم تدخّل الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان عام 1979 وعجز عن تثبيت الأمن وخسر آلاف الجنود والمعدات، وانسحب من هناك عام 1989 من دون تحقيق أية نتيجة . وبعد عامين من هذا الانسحاب، انهار بالكامل واختفى من الوجود، والتدخّل العسكري الأمريكي في العراق سوف يكون له نفس المصير، لأن كسب المعركة في العراق هو شيء مستحيل . وسوف تتوالى الخسائر الأمريكية هناك ولن تنجح جميع الخطط الأمنية وغير الأمنية في تحقيق الأمن والسلام وبناء دولة عراقية جديدة في ظل الاحتلال .
وسوف تجد الولايات المتحدة نفسها في النهاية مضطرة إلى الانسحاب بشكل كامل من العراق، بعد أن جعلت منه مشهدا يترجم مفردات الألم والحسرة والذل والمعاناة ولم يعد خفياً أو غامضاً ما يلقاه الشعب العراقي من القتل والتصفية والتشريد والتهجير والحرق والتدمير، هذه الحرب شرّدت قرابة 4 ملايين إنسان، طردوا من ديارهم وأجبروا على مغادرة بيوتهم والنزوح إلى المجهول، وهم لا يملكون من قوت يومهم شيئاً .
خرجوا إلى الشارع حيث الموت والطريق إلى العذاب والجحيم لا بيت ولا عائلة، وبات الإنسان العراقي لا يجد قوت يومه بل ما يسد رمقه، وأصبحت لقمة الخبز شغله الشاغل اليومي، حتى اضطر بعضهم إلى بيع كل مقتنياته ليوفر ما يحتاجه من الحد الأدنى من القوت، ورأينا صورا كثيرة لمن يبيعون أثاث منازلهم، صورة الأم تبيع سرير طفلها لتشتري له الغذاء، وصورة أم أخرى تهرع مذعورة لتمسك بأيدي طفليها الغضة، تجرها جراً من دفء الفراش إلى الحقول، ولكن حتى سنابل الحقول تئن من وحشية حمم قذائف الانفجارات والموت، فقد قتلت هذه الحرب أكثر من مليون جلهم من الأطفال والنساء، أما الشباب فالمقابر الجماعية تنتظرهم يومياً على موعد الدفن، وبعضهم أيديهم خلف ظهورهم، وآخر مفضوخ الرأس مشطور المخ .
إن ما يجري في العراق من جرائم القتل والطرد وانتهاء بأبشع وسائل تصفية الجسد نتيجة الخطط الخبيثة لإثارة الفتن والنعرات الطائفية والذبح على الهوية، في مشهد يومي يفوق أبشع أفلام الرعب، إنها مأساة القرن الواحد والعشرين وبشاعة الطحالب السوداء وومضة النار الملطخة من قبل الغزو الوحشي وزنازين حقوق الإنسان .