غدا العراق بامتياز بلاد المناسبات الدينية، فبين عزاء وعزاء عزاء. أما الأفراح، كمواليد الأئمة، فتؤدى بعزاء أيضاً، ويبدو مدار السنة لا يستوعب تلك المناسبات لكثرتها، لهذا تحتاج السنة العراقية بالذات إلى تقويم خاص يتسع لكثرتها، وذلك بحساب الوفيات والولادات المقدسة ومواسم الزيارات. وإذا استمر الحال على هذا المنوال، وظلت الدولة فاتحةً مؤسساتها لخدمة تلك المناسبات على حساب عمل دوائرها فلا يؤمل منها أن تتجاوز ما هي فيه من إرباك وفوضى.
فتأمين الأمن لتلك الجموع الغفيرة يحتاج إلى إمكانيات هائلة من المال والجهد، ناهيك عن التجهير بالنفط، وترك العمل، من دون ضوابط، فما أن انتهى عاشوراء حتى بدأ الاستعداد لزيارة الأربعين وما بعدهما زيارة شعبان، وما طرأ من جديد هو وجود مواكب المشاة، من نواحي الجنوب وحتى كربلاء، ومَنْ يأتي سائراً وراء الجمل، تمثيلاً للإمام علي بن الحسين السجاد (ت 94 هـ) بعد استشهاد والده، والمئات تسير وراءه، وعلى ظهر الجمل يحمل كاروك (مهد) تمثيلاً أيضاً لقصة الرضيع... تخترق تلك المواكب الحلة إلى كربلاء. والقصة حسب آية الله مطهري (اغتيل 1980) لا وجود لها من الأساس (الملحمة الحسينية)، مثلما لا وجود لعودة الرؤوس أيضاً. فأي تلاعب هذا بقصة الحسين وبمُثله!
كانت تلك المناسبات مجالاً للاحتجاج على السلطة، هذا ما حدث في مختلف العهود، حتى جاء النَّظام السابق ومنعها، وبطرقه العنفية المعروفة! فمع توافد المواكب الجرارة وتجمعها في مكان واحد تصعب السيطرة إذا ما أُطلق الهتاف ورُفعت راية الإمام الحسين بمواجهة راية السلطة. ولم يحصل في تاريخ تلك المواكب أن وُجهت لصالح الدولة، بل لا يجرؤ أحد على توجيهها تلك الوجهة. وتاريخياً كثيراً ما تستغل في زمن حدة الخصومات الطائفية من قبل الأمراء وقواد الجيش، وقد سقنا أمثلة عديدة، في مقالات سابقة، على المواجهات بين السُنَّة والشيعة ببغداد، حينما كان الصراع معتملاً بين زعماء الديالمة الشيعيين والأتراك السُنيَّين، وهم يتنافسون في السيطرة على العاصمة العباسية.
لا نُحمَّل القادة الدينيين وحدهم مسؤولية الفجوة بين الدولة ومواطنيها، إنما السلطات المتعاقبة كرسته لصالحها أيضاً، من خلال ممارساتها الإقصائية، فمن عهود غابرة، وكأن التضامن حصل بين رؤساء المذهب ورؤساء الدولة، من غير قصد، للاحتفاظ بدرجة من التوجس، فالجانبان ألفا الفائدة منه، وهي وجود دولة داخل دولة، مع مهادنة طويلة الأمد. فعندما أفتى علماء الشيعة بتحريم المشاركة في الانتخابات (1921) أذنوا بعزل الطائفة عن الدولة القائمة، في الوقت الذي شعر فيه الطائفيون، من المذهب الآخر، بالارتياح لتلك الفتاوى، مع اكتراثهم لبقاء الدولة قاصرة دون مشاركة الجميع.
ومن جانب المذهب ما زالت مقولة ابن حنظلة ومشهورة أبي خديجة، نقلاً عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) فاعلة في الروح الشيعية، وهما نواة فكرة ولاية الفقيه، التي لا ينسجم معها كبار علماء المذهب. فالمقولة تقول: "مَنْ كان منكم ممَنْ روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً..." (العاملي، وسائل الشيعة). أما مشهورة أبي خديجة فهي: "انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإني جعلته قاضياً عليكم، فتحاكموا إليه" (نفسه). وسواء صحت المقولتان أم لم تصحا فهما ساريتان في الممارسة الشيعية تجاه الدولة.
ويغلب على الظن أن في مذكرة الملك فيصل الأول، في مارس 1932، ما يفيد لساسة اليوم، فالدولة مفككة مثلما بدأت 1921، وما أن رُكبت ونهضت حتى طالتها الطائفية، طائفة تستمد تعاليمها وشؤونها من رؤسائها وأخرى من رسمية الدولة. قال والمذكرة طويلة: "إن البلاد العراقية من جملة البلدان التي ينقصها، أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحال هذه مبعثرة القوى، منقسمة على بعضها، يحتاج ساستها إن يكونوا حكماء مدَبرين" (الحسني، تاريخ الوزارات العراقية).
أرى في تكثيف المناسبات الدينية إصراراً على التغرب عن الدولة، حسب ما رُسخ في الأذهان من قبل، بل حتى الممارسة الوظيفية تسير بهذا الاتجاه، وهناك مَنْ يحلو له القول: إن الشيعة ليسوا أهل دولة، بل أهل مظلومية، لابد أن تستمر حتى ظهور المهدي المنتظر (غاب 260 هـ)! وبقدر ما في هذا القول من مبالغة، ويمكن حتى شماتة بما يحدث الآن، لكنه لا يخلو من واقع حال، ففكرة إدارة الفقيه وتوجيهه لم تحل المشكلة، كون السلطة هي السلطة، إذا لم تبنَ على حقيقة واقعية، لا يمكن للجانب الديني أن يبنيها، سالمة معافاة من السطوة، لأنها تعامل يومي مع متطلبات المحكومين، من تنظيف الشارع إلى بناء الصناعة، لا شأن للفقيه بهذه الأحوال، وإن دخل بها صار مع الجمهور وجهاً لوجه.
كان من المفترض بعد التاسع من إبريل 2003، والذي وضع حداً لاحتكار رئاسة البلاد لطائفة دون غيرها، أن يبدأ تأسيس العهد اللاطائفي، وتتم المصالحة مع الدولة، على أنها دولة النَّاس، فما يحصل عادةً في الانتفاضات أن يخرب المنتفضون السكك الحديد، وينهبون متعلقات الدولة ذلك لأنها الخصم، وقد استمر الحال حتى هذه الساعة، فلنا تفسير تفاقم الفساد المالي والإداري، بهذه الشراهة، بظاهرة الخصومة التاريخية مع الدولة، وفوق ذلك التراكم التاريخي تولد شعور جديد لدى الطائفة السُنَّية على أن الدولة أمست ملكاً للطائفة الأخرى، وكل ممارسة تقصدها، الإبعاد عن الانتخابات مثلاً.
لا يبدو ترك الدوام الرسمي من أجل الزيارة أو المشاركة في التعازي الموسمية، ممارسة دينية فحسب إنما هي شكل من أشكال التمرد على الدولة؛ والتي هي الآن بين الوجود واللاوجود من الجانب الفعلي. لذا لابد من وقفة شجاعة من قِبل الأحزاب التي تملك زمام الأمور، لهيكلة العلاقة بين هذه الجماهير الغفيرة والدولة، وأن لا تأخذ تلك المناسبات على أنها وسيلة لكسب النَّاس، والبذخ عليها مع العجز عن تعبيد طريق، وإعمار مدرسة. لقد دخل سواد العراقيين دوامة لابد من الصحوة منها، ليس بمنع تلك المناسبات إنما بترشيدها، وعدم التهاون في ترك العمل والدراسة. أقولها حريصاً: إذا بدأنا بعاشوراء، بعد الحج، وجمعناه بصفر ودخلنا بهما شعبان، وما بعدها الكثير، فمتى تبنى الدولة!
*نقلاً عن "الاتحاد" الإماراتية