لاشك أن الفارابي صاحب مدرسة في علم السياسة . ولكنها تكاد تكون قريبة من مذهب إفلاطون . في تصوره عن الدولة الفاضلة والسياسة المدنية . ولذلك فهو قريب الشبه في مادة البحث الذي حاول تسليط الضوء عليها
, وقد اعتبر الفارابي الفلسفة السياسية هي العلم السياسي او العلم المدني . ولاريب أنه يتبع أرسطو في تصنيفه للعلوم , وهي عنده صنفان منها : ما تحصل به معرفة الموجودات التي ليس للإنسان فعلها وهذه تسمى النظرية . والأخر ما تحصل به معرفة الأشياء التي شأنها أن تفعل القوة على فعل الجميل منها . وهذه تسمى الفلسفة العملية والفلسفة المدنية . التي يقسمها بدوره إلى فلسفة خلقية وفلسفة سياسية التي يعرفها ؛ بأنها معرفة الأمور التي بها تحصل الأشياء الجميلة لأهل المدن . والقدرة على تحصيلها لهم وحفظها عليهم وهذا التعريف يمكن أعتباره فلسفة أخلاقية عالية لاعلماً في السياسة . ولا شك أنه مفهوم عام يشمل النظرية السياسية والمحتوى الفكري . وهو ترتيب علمي لمنهج الشريعة وقانونها . وهو توفيق فطري بين الأفكار الميتافيزيقية وعالم النظم التشريعية . ولذلك فهذا المنهج هو أقرب المناهج إلى الكمال . لأنه يوفق بين الذات والعرض والمبادئ والجوهر . وهذا التوفيق جارٍ في كل موارد البحث التي يتعرض لها الفارابي يرتب العلاقة بقدر تناسبها مع الطبيعة والحاجة لذلك . فهو يرى الفقه ؛ أفعالاً يعظم بها الله . والأفعال التي بها تكون المعاملات في المدن . أي أنه يقسمه إلى عبادات ومعاملات . كذلك الحال حينما يتعرض إلى مفهوم علم الكلام . فيعتبره الملكة التي يقتدر بها الإنسان على نصرة الأراء , والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملكة وتزييف كل ما خالفها . وإلى ذلك يعتبر ثلاثية الإشتراك بين الفقه والعلم المدني والكلام طريقة دالة وعملية موصلة على خير الإنسان وسعادته . ولعل هذا التقسيم اكتسبه الفارابي من أرسطو كما تقدم في صدر البحث . إلا أنه ظل من بعد الفارابي عند الفلاسفة المسلمين . فقد تراه في رسائل أخوان الصفا حينما يعرفون الفلسفة بقولهم ؛ الفلسفة أولها محبة العلوم وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب طاقة الإنسانية . وأخرها القول والعمل بما يوافق العلم . ويظهر التقسيم الفارابي هذا لدى الشيخ الرئيس حينما يتناول أقسام الحكومة فيعتبر ؛ الحكمة تنقسم إلى قسم نظري مجرد وقسم عملي . والقسم النظري هو الذي الغاية فيه حصول الأعتقاد اليقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعل الإنسان . ويكون المقصود إنما هو حصول رأي فقط . مثل علم التوحيد وعلم الهيئة . والقسم العملي هو الذي ليس الغاية فيه حصول الأعتقاد اليقيني بالموجودات . بل ربما يكون المقصود فيه حصول صحة رأي في أمر يحصل بكسب الإنسان ليكتسب هو الخير منه. فلا يكون المقصود حصول رأي فقط . بل حصول رأي لأجل عمل . فغاية النظري هو الحق وغاية العملي هو الخير , ولذلك فهو يحصل في هذا التقسيم إلى مجمل العلوم . ولهذا فعنده علم السياسة يتناول ؛ السياسات والرئاسات والأجتماعات المدنية الفاضلة والرديئة . ويعرف وجه أستيفاء كل واحد منها وعلة زواله وجهة انتقاله . ولعل هذا التعريف للعلم السياسي يأخذ شكلاً أخر لدى أبن خلدون . حينما يفرق بين مفهوم الملك والنبوة . لذلك فهو يعتبر النبي ما تعرف به الشريعة والتي يعرف بها وجود النبوة . وحاجة نوع الأنسان في وجوده وبقائه ومنقلبه ؛إلى الشريعة وتعرف بعض الحكمة فبالحدود الكلية المشتركة في الشرائع , والتي تخص شريعة بحسب قوم وقوم وزمان وزمان . ويعرف به الفرق بين النبوة الإلهية وبين الدعاية الباطلة كلها . بعد هذه التوطئة نلاحظ ان الفارابي يصنف الدول إلى فاضلة واخرى جاهلة او فاسقة أو متبدلة أو ضالة . ويعتمد في تصنيفه ذلك على مبدأئي السعادة والرياسة . فالمدينة الفاضلة هي التي يسعى اهلها للسعادة الحقيقة المبنية على الخير والمعرفة والفضيلة . وعلى العكس يتجه أهل المدن الأخرى لكسب لذائذ دنيوية زائلة يحسبونها سعادة في حين هي عمل غير موجه . ويتنافى مع الطبيعة الذاتية للفطرة وللاتجاه العام . ولذلك فهم ورئيسهم إنما يمارسون العمل بأتجاه الغرائز والشهوات . وهذا ما يخالف الوجود مما ينتهي بهم إلى الهلاك والخسران . وبالمقابل فإن زعيم المدينة الفاضلة إنما يتجه لفعل الخير واكتساب الفضيلة المنتهية بالفرد والجماعة إلى السعادة . وهذا التعليق المقارن تجده واضحاً في مقولة الفارابي حينما يميز بين المدن . فيعتبر أن ؛ المدينة الجاهلية هي التي لم يعرف اهلها السعادة . ولا خطرت ببالهم إن أرشدوا إليها . فلم يقيموها ولم يعتقدوها , وإنما عرفوا من الخيرات بعض هذه التي هي منظومة في الظاهر إنها خيرات من التي يطن انها هي الغايات في الحياة . وهي سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات , وأن يكون مخلى هواه وأن يكون مكرماً ومعظماً .. وهي تنقسم إلى جماعة منها المدينة الضرورية . وهي التي قصد اهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة , ومدينة الخسة والشقوة وهي التي قصد أهلها التمتع باللذات واللعب بكل وجه ومن كل نحو . ومدينة الكرامة وهي التي قصد اهلها على ان يتعاونوا على أن يصيروا مكرمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين الأمم . ومدينة التغلب وهي التي قصد اهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم . ويكون كدهم اللذة التي نتالهم من الغلبة فقط , والمدينة الجماعية هي التي قصد اهلها ان يكونوا احراراً يعمل كل واحد منهم ما شاء . لا يمنع هواه في شئ أصلاً , وأما المدينة الفاسقة وهي التي آراؤها الأراء الفاضلة وهي التي تعلم السعادة ولكن تكون . أفعال اهلها أفعال أهل المدن الجاهلية والمدينة المبدلة فهي التي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء المدينة الفاضلة وأفعالها . غير أنها تبدلت فدخلت فيها آراء غير تلك واستحالت أفعالها إلى غير تلك , والمدينة الضالة هي التي تظن بعد حياتها ولكن غيرت هذه ويكون رئيسها الأول ممن أوهم أنه يوحى إليه من غير أن يكون ذلك . ويكون قد أستعمل في ذلك التمويهات والمخادعات والغرور . وملوك هذه المدن مضادة لملوك المدن ورياستهم مضادة للرياسات الفاضلة وكذلك سائر منها !!! ــــــــــــــــــــ المصدر : كتاب رسالة في التوحيد والسياسة المؤلف : الشيخ الركابي بيروت , مؤسسة البلاغ , 1988م