يتميز المنهج الليبرالي عن غيره من المناهج بهوامش الحرية المتاحة للفرد فيما يتعلق بإختياراته الفكرية والثقافية والعقائدية.
فـ "الليبرالية" لا تتبنى موقفاً مبدئياً من أية عقيدة أو دين أو منهج، بل لا يجب أن يكون لها أي موقف مبدئي منها وإلا لتناقض المنهج الليبرالي في فكرته الأساسية في "حرية الإختيار" مع الممارسة الفعلية للمنهج الليبرالي. ولهذا السبب فإن المجتمعات الليبرالية هي مجتمعات مختلطة الثقافات والعقائد والأفكار، ولا يتم التمييز بينها إلا من خلال قرار المجتمع نفسه في رفض أو تبني جزئيات محددة منها من خلال مؤسساتها التشريعية المنتخبة، ولكن الأفراد يبقون متساوين أمام القانون، ولا يتم التمييز بينهم من خلال الفرص التي تتيحها الدولة أو المجتمع للأفراد والجماعات.
وبسبب أن المجتمعات العربية والإسلامية هي مجتمعات تعرضت حديثاً للمفاهيم والمناهج الغربية، فإن هذه المجتمعات تنحو في أغلب الأحيان إلى تشويه هذه المفاهيم إما بحُسن أو بسوء نية. وفي أحيان أخرى كثيرة نجد أن الأفكار الإنسانية السامية يتخذها البعض وسيلة أو غطاء ليخفي موقفاً محدداً هو لا يملك الشجاعة الكافية لأن يصرح به بوضوح. ومن هذا المنطلق نجد أن الكثير ممن يدّعون "الليبرالية" أو "العلمانية" في الوطن العربي، وفي الكويت، هم في الأصل (ملحدون) ومناهضون تحديداً للدين الإسلامي كعقيدة. وبدلاً من أن يطرحوا آراءهم، بصراحة ووضوح، من وجهة النظر التي يتبنونها حقيقة ً، نجدهم يتخفون خلف ستار إدعاء "الليبرالية" أو "العلمانية" ليطرحوا "عقيدتهم" تلك، وكأن الليبرالية أو العلمانية تستدعي بالضرورة الإلحاد. وبالطبع، لا تصمد ادعاءاتهم هذه أمام النقد والتمحيص لأن نقد المنهج الفقهي الديني في إدارة الدولة وشؤون الحكم لا يعني بالضرورة الكفر بالعقيدة، هذا بالإضافة إلى أن ما يحاول هؤلاء أن يوهمون انفسهم وغيرهم به هو غير مشاهد أصلاً في أعرق الدول الليبرالية شرقـاً وغرباً، ولا يوجد إلا في أوهامهم. كما أن "النقد"، كوسيلة عقلانية، هو غائب أصلاً في الأغلبية الساحقة في ما يمارسه هؤلاء وإنما هو استهزاء وسخرية وتصرفات أقرب إلى المراهقة الفكرية الساذجة منها إلى منهج ناضج يسعى وراء "حقيقة".
إن المواقف المبدئية للعلمانية والليبرالية لا ترفض الأديان ولا العقائد الغيبية، بل على العكس، هي تستخدمها كمصادر محتملة للتشريع والقيم والأخلاق. فلا يمكن أبداً انكار التفاعلات الإجتماعية الدينية حتى في أعرق المجتمعات الليبرالية في غرب أوربا وأمريكا الشمالية، ولا يمكن إنكار انخراط السياسيين العلمانيين في هذه الدول نفسها في النشاط العقائدي على المستوى الخاص، ولا يمكن انكار أن "الإلحاد" هو شبه غائب أصلاً من ضمن المؤسسات السياسية الفاعلة في هذه الدول. ولكن الفرق هو أن هذه الدول تصر على ابقاء "الدين" خارج إطار السياسة وتفاعلاتها. فالقرارات السياسية لا يتم اتخاذها بسبب رأي فقيه ولا بسبب موقف مؤسسة دينية ولا بسبب إصرار حزب يسوّق لنفسه سياسياً بإستخدام ورقة الدين.
إن الموقف الساذج الذي يصر على استخدام الليبرالية والعلمانية كغطاء للتوجهات الإلحادية يجب أن يتم معاكسته وفضحه وكشفه، لأن سذاجة هؤلاء وتهافتهم تعدت بمراحل كثيرة الضرر الذاتي إلى الهدم المنظم لأصل المنهج وحقيقته. فبينما يبتسم افراد المجتمعات الغربية بسخرية من مجرد الإيحاء بأن الليبرالية تستدعي الإلحاد، نجد أن المجتمعات الشرقية باتت مقتنعة بالفكرة تماماً وكأنها أمر مفروغ منه. واصبحت التيارات الدينية التي هي من أحد أسباب الكوارث التنموية في هذا الوطن تستغل هذه المفاهيم الخاطئة التي يتبناها هؤلاء لحشد التأييد الشعبي لها والتبرير لمناهجها الكارثية. هذا مع الأخذ بعين الإعتبار حقيقة أن كل من يدعو إلى هذا التلازم بين الإلحاد والمبادئ الليبرالية العلمانية في مجتمعاتنا هم أصلاً ممن لا حظ لهم اطلاقـاً من أية ركيزة معرفية ناضجة من الممكن أن تصمد طويلاً أمام النقاش والتفنيد.
إن الليبرالية هي محاولة للتعايش في مجتمع تتعدد فيه الأديان والمذاهب، بحيث يغدو التفاعل والحوار بينهم أكثر سلماً وعقلانية وهدوءاً، منطلقين من تقبل الآخر المختلف عنهم كمبدأ ولكنهم يخالفونه في الرأي والموقف. ومن شاء ان يتخذ الإلحاد كمنهج، فليفعل ذلك بعيداً عن أوهام ضرورات الليبرالية وشعارات العلمانية، لأنهما لا شأن لهما ابداً بتلك المحاولات الساذجة.