في الوقت الذي تعلو فيه أصوات الجدل المحتدم بين المشتغلين بالسياسة في العراق حول طبيعة "الاتفاقية" التي ستكون بين العراق والولايات المتحدة الأميركية، اختزل قلما وزيرة الخارجية وزميلها وزير الدفاع الأميركيان "رؤيا" الاتفاقية بمقالة قد لا تزيد عن حجم صفحة،
بعيداً عن الضوضاء والمقترحات والاعتراضات الجارية على قدم وساق في بغداد. الاتفاقية ستظهر، كما قدمت مقالة رايس/جيتس ملامحها الرئيسية، عبر آلية واضحة لتحويل التفويض الدولي من قوات التحالف (المتعددة الجنسيات) إلى الولايات المتحدة الأميركية، باعتبار المتوقع من عدم موافقة العراق على تمديد تفويض الأمم المتحدة كي تمهد الطريق للاتفاقية التي لا تبتعد كثيراً عن أشكال الأحلاف والمواثيق التي ملأت تاريخ الدولة العراقية القصير نسبياً (حوالي 86 سنة).
وببساطة متناهية أوضحت مقالة رايس/جيتس أن الاتفاقية ستقوم من أجل تشكيل "إطار عمل لعلاقات قوية مع العراق يعكس مصالحنا السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية المشتركة". وكما توقعنا في كتابات سابقة،لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تترك العراق في خضم حملتها ضد الإرهاب وحاجاتها السياسية والاقتصادية لإيجاد موطئ قدم صلد في قلب الشرق الأوسط، الأمر الذي يبرر ما ذهب إليه أكثر الرسميين العراقيين إطلاعاً على تطلعات واشنطن طي الخطوط العامة لهذه ااإتفاقية، إذ قال هوشيار زيباري، وزير خارجية العراق، بالحرف الواحد "المسألة ليست مجرد العراق، إنها الخليج والنفط وعملية السلام في الشرق الأوسط". وبكلمات أخرى، أكد زيباري ما عرضته مقالة رايس/جيتس في أن الموضوع بمجمله يتعلق بالمصالح القومية للولايات المتحدة الأميركية.
وهكذا سيمحى عنوان "قوات التحالف" ويحل عنوان "القوات الأميركية" مكانه، إذ لن يكون هناك تحالفاً دولياً مباركاً من الأمم المتحدة بعدئذ، بينما ستضطلع الولايات المتحدة بحصاد ثمار حملتها المعقدة في العراق عبر إطار قانوني موقع عليه من قبل ممثلي الحكومتين. أما جوهر الاتفاقية، فهو يدور حول: ما الذي ستفعله القوات الأميركية في العراق عبر مدة طويلة لا يمكن أن تنتهي بسنة أو سنتين؟ هذه القوات ستقوم بـ: (1) مساعدة الحكومة العراقية في حربها على الإرهاب؛ (2) تدريب القوات العراقية وتجهيزها؛ (3) إيقاف تدفق الأسلحة إلى العراق من دول الجوار (لاحظ أن وزير الدفاع العراقي قد قال قبل بضعة أيام أن القوات العراقية غير قادرة حالياً على الدفاع عن الحدود). هذه هي المهمات المطلوبة، على الرغم من إشارة زيباري إلى أن "الحكومة العراقية ستطلب من الولايات المتحدة التزاماً بالحماية من أية تهديدات داخلية أو عدوان خارجي". وهذه عقدة في إدراك أبعاد الاتفاقية ومدتها الحقيقية بسبب انفتاحها لمختلف التفسيرات: فإذا ما كان الهدف هو محاربة الإرهاب بشكل تضامني بين الحكومتين، فما المانع من استخدام القوات الأميركية لتوجيه ضربات، من أي نوع كان، إلى أي من دول الجوار، ممتطية العنوان المسيّل "مكافحة الإرهاب"، خاصة وان كلاً من الجمهورية الإسلامية وسوريا تعدهما الولايات المتحدة من الدول الداعمة للإرهاب رسمياً. وكما أكدت مقالة رايس/جيتس المهمة، حاول زيباري أن يهدىء من روع المنزعجين من الاتفاقية في دول الجوار بقوله "لكن هذا لا يعني أننا نريد من الولايات المتحدة أن تضم قواتها إلى العراق وتخوض حرباً مع إيران أو أي جيران آخرين". إن المسألة، كما يرى المراقب الحذق، هي ليست "هذا لا يعني"، بحسب منظور الوزير العراقي، ذلك أن قراراً بتوجيه ضربات إلى اي مكان في الشرق الأوسط لن يكون عراقياً قط، خاصة مع توفر المبررات والمسوغات حسب الطلب.
إن مقالة رايس/جيتس تفترض أن العراقيين سيستمرون بالحاجة لـ"مساعدتنا"، الأمر الذي يبرر أن موضوع وضع الاتفاقية وتحديد معالمها وملامحها مناط بـ"القائد العام للقوات المسلحة" وهو الرئيس جورج بوش، وليس بالكونغرس الأميركي، باعتبار أن "لا شيء سيكون مفتوحاً للنقاش خلال الأشهر المقبلة"، وهي الأشهر الأخيرة من ولاية الرئيس جورج بوش. ولأن أحداً لن يتمكن من المناقشة أو الاعتراض في واشنطن باعتبار "المصالح القومية" لها، فإن لمحة تطييب خواطر لم تفت مقالة رايس/جيتس، مفادها "توفير شفافية كاملة" من أجل إطلاع الكونجرس. وبكلمات أخرى، وباعتبار أن الموضوع أمني بحت لا يخص سوى الرئيس، فإن دور الكونجرس لن يزيد على الاطلاع والمساعدة، إن أمكن، مع إشارة خاصة لما ذكره مخضرمون في الكونجرس من أمثال "كارل ليفن" و "جون وارنر" و "ريتشارد لوجار"، زيادة على تقرير لجنة بيكر/هاملتون، والجميع قد اقترحوا إيجاد وضع قانوني خاص لتنظيم العلاقة المستقبلية بين العراق والولايات المتحدة.
إن استبعاد الكونجرس عن عملية وضع الاتفاقية ينطوي على بعد مهم آخر، وهو تكبيل الرئيس القادم للولايات المتحدة الأميركية بطريقة قانونية تمنعه من التملص عن الاتفاقية أو إلغائها أو سحب القوات على نحو سريع، كما لوّح بذلك كل من المرشحين الديمقراطيين، "باراك أوباما" و "هيلاري كلينتون". وهكذا لن يكون الرئيس الأميركي المقبل أو الكونجرس المقبل أحراراً في التصرف بقدر تعلق الأمر باتفاقية بين دولتين. ومرة ثانية، فإن هذا ما أكده زيباري عندما قال "لا أعتقد شخصياً أن يحدث أي فصل سريع بغض النظر عمن سيفوز في السباق"، بمعنى سباق الرئاسة الأميركية. لقد حسمت كوندوليزا رايس، بالتعاون مع زميلها، روبرت جيتس، جدلاً ساخناً جارياً ببغداد (قد يحتاج إلى مجلدات لتسجيله وتوثيقه) بصفحة واحدة نشرت في صحيفتي (لوس انجليز تايمز) و (واشنطن بوست)!
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي