هذه القراءة مهمتها بالدرجة الأولى تقرير حال الأحزاب التي تتخذ من الدين غطاءً أو أسماً لها وكذلك تستهدف لفت الإنتباه و النظر إلى طبيعة عمل المنتظمات الدينية ومدى مطابقتها للواقع ، و هذا يلزمه تسليط الضوء على الآليات التي تتحكم في طبيعة المنتظم الفكرية ومتبنياته الإيديولوجية ، وكذا في قدرة هذا المنتظم على تبديل خطابه حسب طبيعة المصالح التي يعيشها في الواقع .
وهنا نؤكد لمن يهمه الأمر حيادية هذه القراءة وموضوعيتها وإن مهمتها المعرفية هي في كشف اللبس والتشابك الذي يحدث في الغالب ما بين النظرية وما بين التطبيق أو قل ما بين الفكر والممارسة ، وهو لبس إشكالي ومعرفي خطير وما عاد يخفى على الجميع في ظل الفضاءات المفتوحة التي فرضت على الجميع فتح ملفاتها للعوام ، ولا نذيع سراً إذا ما قلنا بأن للحزب لغة خطاب مشوشة أخلت في بنيته ومعتقداته خاصة في مجال الدمج والتوظيف غير الموفق لبعض الفصول من الميثاق العام والذي يغلب عليه النزعة المثالية تبعاً للمقدمات التي قام عليها ، وهذا الإدعاء منا بحسب معرفتنا التاريخية به ولذلك فنحن نميل في العادة للتميز بين ماهو شعار وماهو عقيدة ، وهذا التمييز منا يقوم على أساس التفريق في الرؤية والمنهج بوصفهما العام وليس في سياقهما الإيديولوجي والتاريخي .
ولكي نبين للقارئ العزيز هذا الأفتراق في موضوعة وجدل – حزب الدعوة والمشروع الإسلامي – وما هو الربط في الواقع بين حزب الدعوة والمشروع السياسي والفكري للإسلام ، نقول إن هذه إشكالية معرفية وموضوعية يجب التثبت منها حسب مفادات اللغة وماتتضمنه قواعد الإسلام وأصوله لدى الطائفة الشيعية ، وهنا نحن إنما نناقش المسألة في سياقها العلمي ووضعها المهني والحرفي بل وفي دلالاتها التعبوية والتي تستهدف تحشيد الناس من حولها على قاعدة الدعوة من أجل الإسلام أو الدعوة للإسلام كما هو في الثقافة العامة .
ولأن الدعوة للإسلام عمل يلزمه شروط وعناصر واجب توفرها بالفعل فيمن يتبنى هذا الطرح وهذا المنهج من بينها العدالة والنزاهة والتفرغ والكفاءة وهذه شروط موضوعية لازمة حتى يتم التصديق بمن يحمل هذا الطرح والثقة به ، ونحن هنا إنما نناقش الموضوع في سياقه المعرفي والعلمي الخالص كما أسلفنا ، ونعني به وجوب توافر هذه الشروط لكي يكون الربط بين الدعوة والإسلام ربط سبب بمسببه بحيث تغدوان مفهومان دالان على معنى ٍ واحد هكذا يجب ان يكون لكي يدخل هذا الربط إلى عقول وقلوب الجماهير ليصدقوا به ويتبنوه كمشروع للحياة ، وفي الدين الإسلامي تتخذ الدعوة الطابع الإلزامي في مجالي العقيدة والشريعة ..
ونحن حينما نسلط الضوء على الواقع العملي لحزب الدعوة دون سواه ذلك لأنه أصبح الآن فصيلاً يشتغل في الهم السياسي ويشارك في الحكومة الجديدة ، لهذا فالنظرة العامة إليه ستكون مرتبطة بالواقع وما يقدمه ومدى إرتباط إسمه بمسماه ، وهذه وحدها قضية إجرائية ومهنية ضرورية للتعريف به من غير شعارات وخطب وتزييف مقصود في كثير من الأحيان .
أضف إلى هذا فأن عامة الناس من شعبنا لاتعلم بالضبط مايمثله حزب الدعوة إلاّ القليل من الأفكار التي ساعد الإعلام على نشرها ، وهذا لأن الحزب بالفعل لم يكن له تأثير في الساحة السياسية والإجتماعية غير بعض النشريات والدوريات هنا وهناك خارج حدود الوطن والتي لاتغني ولاتسمن ، و هذا الواقع لم يكن له من الفاعلية والنشاط ما يجعله مؤثراً في قناعات الناس ومتبنياتهم حول ماكان يجري عندهم من أحداث ، ولهذا كان الحزب بالفعل خارج اللعبة السياسية زاد في ذلك موقفه من مؤتمر لندن الذي جرى الإعداد له في الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط النظام السابق بشهور ، ولم يدر في خلد أكثر المتفائلين منهم [ أعني من جماعة حزب الدعوة ] إنهم سيصلون إلى أي مقام أومركز في النظام الجديد وهذا الواقع يجب التثبت منه ومراجعته أصولياً وحسب تسلسله التاريخي .
لكن اليوم أصبح الحزب جزء من العملية السياسية كما قلنا وصار أمينه العام رئيساً للوزراء ، وهذا الحدث بحد ذاته يجب النظر إليه في سياقه الموضوعي إيضاً أعني ضمن الشكل الجديد للواقع السياسي للعراق بعد سقوط بغداد وبداية عصر المحاصصة الطائفية والقومية ، وهو عصر سواءته كثيرة كما لايخفى على الجميع من أبناء شعبنا !! .
فهل حقق الحزب هذه الجدلية وهذا الشرط بحيث أستطاع التمسك بالقواعد الدينية للأسلام ولم يفرط بواحده من أساسيات الإسلام ؟ أم إن الحزب تبدل تماماً ونزع جلده وصار حزباً علمانياً يصافح رجاله النساء ويخالط أهل الكفر ويعمل بمشورة المحتل ؟ بل ويعول عليه بان يكون رأس الحربة في طرد جيش المهدي وقادته وزعمائه من أي منصب ووظيفة حكومية !! ..
هذه المقدمة أو هذا المدخل كان ضرورياً في قرائتنا هذه ، كما إن هذه الأسئلة هامة للتعريف بهذا المنتظم لكي يسهل على الناس التعاطي معه في الوجه الذي يرتضيه ويلبسه . وليس في الصورة الغائبة والمغولة في التعمية
فالذي نعلمه تاريخياً ان حزب الدعوة قد طرح مفهوم – ولاية الأمة – كمشروع سياسي في قبال مشروع – ولاية الفقية – السياسي والديني ، وذلك أبان الأشتباك مع السيد الشهيد محمد باقر الحكيم رحمه الله تعالى في إيران ، حين أرادوا جماعة الضغط في الحزب تطويع السيد الحكيم والأستفادة من قدرته وشعبيته في فترة الثمانينات من القرن الماضي وتحديداً مع بداية الحرب العراقية الإيرانية ، وكما هو معلوم فان السيد الحكيم رحمه الله كان فقيهاً وعالماً وكان لذلك يعتقد – بولاية الفقية – حسب شروطها الموضوعية كنظام سياسي يُمكنه قيادة الأمة ، وهو في هذه الرؤية ينطلق من عقيدة شيعية خالصة ترى في الفقية هو النائب أو الوكيل الشرعي للأمام الغائب – عج - كما دلت على ذلك مرويات منها مقبولة عمربن حنظلة وصحيحة أبي خديجة وغيرها من الأخبار والدلالات العقلية ، وبأعتباره فقيهاً فهو يرى إن ولاية الأمة هي ولاية إعتبارية ثانوية مهتدياً في ذلك بقوله تعالى : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم ) فالولاية الحقيقية هي للفقية العادل الجامع للشرائط ، وهذا الرأي هو ماكان يتبناه إيضاً الشهيد محمد باقر الصدر – قدس سره – ظهر ذلك في مجمل خطاباته وجواباته للإمام الخميني – ره - منها مقولته الشهيرة : - ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام – و الخطاب عام وموجه بشكل رئيسي للمشتغلين بالعمل السياسي ..
نعم إن حاكمية الفقية العادل سواء الحاكمية المطلقة على رأي البعض أو المقيدة على رأي البعض الأخر هي من أمهات الفكر في المدرسة الشيعية والتي تتمسك بهذا الإجراء الشرعي في كل القضايا العامه ، وهم لذلك أشترطوا لصحة عمل العبد أن يكون مقلد لمجتهد من المجتهدين [وكلاء الإمام المعصوم حسب الرواية التي وردت عن الحجة – ع - بقوله : - من كان من الفقهاء حافظاً لدينه مخالفاً لهواه فاللعوام ان يقلدوه – ] وهذا حسب قول البعض ليس من باب الأرشاد بل هو أمر تعبدي وتكليف شرعي لاتصح العبادة من دون ذلك ..
ولقد رأينا كيف أستخدم هذا التكليف وكيف وظف في غير محله في النهج السياسي في العراق بكثافة في الإنتخابات وغيرها ، مع علمهم إن فقهاء العراق لايؤمنون بولاية الفقية على نحو مطلق وخاصة في الشأن السياسي وكل مايؤمنون به هو في باب الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتعلق بأموال اليُتم والقُصر ، ولكن حزب الدعوة أطلق العنان لدعايته في الذب عن السلطة الفقهية للمجتهد وذلك هنا ليحقق ما كان يرغب به من مصالح مخالفاً في ذلك رأيه القائل – بولاية الأمة - وهذا خلط غير محمود وتدليس أضر بسمعة الأسم الذي يحمله .
ويجب الإعتراف بان ولاية الأمة هي ليست من أصول المذهب الشيعي بالمطلق وليست من متبنياته ، ولكنها نظرية سُنية بأمتياز ظهرت للنور في باب المحاججة حول من أولى بالخلافة بعد الرسول – ص – أبي بكر أم علي - ع - ؟؟ .
فالسنة ذهبت لنفي التنصيب وقالوا – بولاية الأمة - أي إنهم رفضوا فكرة : ان علياً منصوص عليه من الرسول محمد - ص - وتمسكوا برأي جمهور الصحابه وبما آلت إليه الخلافة يوم السقيفة ومبايعة أبي بكر ، وهذا التقرير رفضه المذهب الشيعي على أساس إن بيعة غدير خم حقيقة واقعه وإن الإخبار دالة على ذلك وهي التي تعطي الحق لعلي - ع - في الخلافة ، ولهذا تمكست المدرسة الشيعية بولاية الإمام المعصوم ومن بعده في زمن الغيبة بولاية الفقية أعني ولاية المجتهد العادل الجامع للشرائط ، وقد طبقت إيران هذا المبدأ من خلال حاكمية – ولاية الفقية المتصدي للشأن السياسي – ويجرى هذا التعميم على كل من يعتقد بالإسلام حسب المذهب الشيعي ، ولكن حزب الدعوة شذ عن هذا متبنياً الفكر السُني في رؤيته للحكم وتحديداً حسب المتبنيات الفكرية للإخوان المسلمين في مصر ، ربما يريد الحزب إن يشارك في العمل السياسي وفي المشاركة الجماهيرية من خلال مبدأ الإختيار والإنتخاب الديمقراطي وعلى الرأي القائل - فما تقوله الأمة - واجب الإتباع هذا الرأي إن كان كذلك منهم فهو رأي محترم وهو خطوة بالإتجاه الصحيح ، ولكن من لوازم هذا الإجراء إن يترك حزب الدعوة ميثاقة التنظيمي الذي طرحه وكذا إن يحذف عبارة – الإسلامي – من أسمه ويعمل على التحول التدريجي إلى حزب وطني يؤمن بالمجتمع المدني وبالتعددية والعلمانية كطريق للحكم ، وهذه هي الخطوة الواجب عملها حتى تكون الأقوال مطابقة للأعمال ، فالتحول من الإسلامية السياسية إلى العلمانية السياسية ستكسب هذا الحزب إحترامنا جميعاً وستنهي حالة الشك والتردد وعدم الثقة لدى قطاعات واسعة فيه ، وستفتح الطريق أمامه للمشاركة السياسية الفعلية بوضوح وشفافية ، لأنه يكون بذلك قد تخلى عن كل ما يخل بوحدة خطابه السياسي والإجتماعي بل وحتى الثقافي .
ويمكن تشخيص حالة الخلل في الخطاب من خلال تبني شعارات تعبوية هدفها تشويش ذهنية المتلقي[ كالقول الساذج والغبي والقائل بأنه يجب إن يكون للإسلام أحزاب سياسية كما هو الحال بالنسبة للمسيحية في دول أوربا ] ، مع إن هذا التشبيه غير دقيق وينم عن قصور في المعرفة بطبيعة كل من الإسلام والمسيحية إذ في الإسلام : - الدين هو السياسة والسياسة هي الدين - وعلى رأي السيد الخميني : ديننا عين سياستنا وبالعكس – وهذا مالانجده في الفكر المسيحي الجديد منه أو حتى القديم
حتى جماعة الظلام وأهل الحرب الصليبية لم يتبنوا هذه المقوله بل إنهم يميلون للتمسك بالقانون المدني الذي يحمي الناس ويشيع المحبة والسلام ، ومن هنا لو تبدل الفكر الإسلامي وعمل قطيعة معرفية بين فكره الديني ومفهومه السياسي لكان ذلك ممكن في حد الوصف والتشبيه ، بقي ان نقول : إن الدولة المدنية من لوازمها ان يتبدل من يريد العمل وفق قوانينها إن يعلن بصراحة لالبس فيها فك إرتباطه بكل منظومة فكرية قد تؤثر في ماهية وطبيعة النظام السياسي والإجتماعي ، وأنا واثق بان حزب الدعوة سيتخلى عن مشروعه في الإسلام السياسي وسينتقل ليكون حزباً مدنياً يؤمن بالعلمانية وبالحرية وبالعدل وبالسلام للجميع ، وهذا منا ناشئ بفعل ما نرى ونشاهد في السنوات الأخيرة من عمر الحزب وكيف إنقلب على الكثير من متبنياته وهذه خطوات نشجعها بأصرار ..