خسرت الولايات المتحدة حرب العراق قبل ان تبدأ، لسبب واحد مهم هو ان إدارة بوش لم تعتبرها مهمة لكسب ثقة ودعم الشعب،
وفي الايام السابقة على الحرب لم تطلع إدارة بوش الشعب الأميركي على حقيقة أسباب غزونا للعراق، أو ما هي التكاليف المتوقعة والعواقب التي قد تنتج من مثل هذا العمل، واستعاضت عن ذلك بالاعتماد على التهويل واختراع الاساطير لتبرير الحرب.
في هذا السياق، من الاهمية بمكان تذكر كل الاساطير التي لفقتها الادارة للترويج للحرب، وليس فقط المعلومات الاستخباراتية المزيفة حول اسلحة الدمار الشامل والصلة المزعومة بهجمات 11 سبتمبر 2001. وفي الخطب والمناظرات جهد المؤيدون للحرب من اجل التقليل من شأن تكاليفها وعواقبها وقيل لنا انها ستكون عملية عسكرية خاطفة وغير مؤلمة نسبيا: مجرد استعراض ضخم للصدمة والترويع يعقبه اسابيع قليلة من القتال، وربما شهور معدودة لترتيب الاوضاع. وكانت تقديرات احد مسئولي البنتاغون تدور حول 90 ألف جندي و6 اشهر وبلايين معدودة من الدولارات فضلا عن ان عائدات النفط العراقي ستغطي تكاليف اعادة الاعمار.
وبالنظر إلى الانتصارات التي تحققت في عملية عاصفة الصحراء عام 1991 وفي حرب البلقان خلال الفترة من 1996 إلى 1999، كانت تلك النوعية من الحرب عالية التقنية هي التي جعلت الاميركيين يتوقعون من حرب العراق محدودية الخسائر الأميركية وكذلك الاضرار الجانبية.
في الوقت نفسه، قيل لنا ان القوات الأميركية ستطيح بالدكتاتور ونظامه البغيض وتستقبل استقبال الابطال (في صورة تذكرنا بالحرب العالمية الثانية) وتكون بمثابة القابلة لميلاد ديمقراطية وليدة تكون منارة للشرق الاوسط كله.
وكانت استطلاعات الرأي عندنا في مركز زغبي انترناشيونال تشير إلى مدى اهمية هذه الاساطير لكسب تأييد الشعب الأميركي. فلو ان هذه السيناريوهات الاسطورية أصبحت هي المسار الفعلي للحرب لأيدها الشعب الأميركي ولكن عندما طرحنا اسئلة استشرافية لظهور سيناريوهات بديلة مفترضة وجدنا التأييد يتراجع بدرجة كبيرة. وقالت الاغلبية انهم لن يؤيدوا الحرب اذا استمرت اكثر من عام واحد وأودت بحياة اكثر من 1000 جندي اميركي أو 10 آلاف عراقي.
أما وأن معظم الاميركيين كانوا غير مستعدين لهذه النتائج، فقد أيدوا سير الادارة نحو الحرب.
كنت وزوجتي نعيش ونعمل بالتدريس في نورث كارولينا عندما نشبت الحرب، وقد فوجئنا بمدى الانفصال المريع بين ادراكات الناس للصراع الناشب وحقيقته. ولأن نورث كارولينا كانت موئلا لعدد من القواعد العسكرية فقد اكتظت نشرات الاخبار المسائية بالمقابلات الصحفية مع افراد هؤلاء الشباب والشابات الذاهبين إلى العراق، وعبرت الامهات عن فخرهن بأبنائهن وبناتهن الذين كن يعتقدن انهم يقاتلون لحماية حريتنا وهزيمة اولئك الذين هاجمونا أو جلب الحرية للشعب العراقي.
بالنسبة لمعظم سكان نورث كارولينا من الذين ليس لهم صلة شخصية بالحرب كان الامر عاديا، وفي ليلة من الليالي قررنا الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم تدور احداثه حول حرب فيتنام حيث حمل الفيلم بعض الحقائق المشابهة للكارثة التي بدأت فصولها في العراق. وما اذهلنا اننا كنا الوحيدين داخل القاعة. فلما خرجت من المسرح المظلم، لم أكن أعرف ما الذي أزعجني أكثر: هل ما شاهدته على الشاشة ام هو المشهد في مركز التسوق حيث توجد قاعة السينما حيث آلاف المتسوقين الذين كانوا يعيشون حياتهم كالمعتاد بينما الحرب تحصد الآلاف على بعد اميال.
واستمر صنع الاسطورة، وقام مجموعة من الجنود بإسقاط تمثال صدام حسين ببغداد ولكن امام تجمع صغير من العراقيين المبتهجين. بعد ذلك حط بوش بطائرته على متن حاملة طائرات ليعلن نهاية العمليات القتالية الرئيسية امام لافتة مكتوب عليها (المهمة اكتملت). وظل التأييد الشعبي للحرب قويا لبعض الوقت إلى ان انقشع الغبار وبانت الحقيقة وبدأت الاسطورة في الظهور: لا أسلحة دمار شامل، الأمر الذي وضع مزاعم المعلومات الاستخباراتية قبل الحرب موضع التشكيك. واستمرت الحرب وتزايدت الخسائر وسيطرت الجماعات المسلحة على العراق وأظهرت استطلاعات الرأي عدم الرضا بما وصفوه بالاحتلال فيما تزايدت حالة انعدام القانون والامن في في بغداد.
وبدأ البيت الابيض والبنتاغون يسابقان الزمن لوضع مبررات واساطير جديدة لحشد الدعم الشعبي بوصم المسلحين ببقايا النظام القديم أو الارهابيين الأجانب ووعدونا بأن ايامهم معدودة وقام البنتاغون بمنع عرض اكفان القتلى الأميركيين من الظهور وتم منع المستشفيات العراقية من اصدار تقارير حول القتلى.
ومع اشتداد حدة الحرب تمت تجربة اساليب جديدة وتم تقديم (التقدم السياسي) في شكل سلسلة من الاستفتاءات والانتخابات كدليل على النصر ورفع الرئيس ومساعدوه من الرهان الخطابي حيث قال: نحن نقاتل هؤلاء المسلحين هناك حتى لا نقاتلهم هنا وهؤلاء هم نفس الأشخاص الذين هاجمونا في 11 سبتمبر والمسلحون والارهابيون والميليشيات المتنافسة في العراق انضمت إلى القاعدة وايران في حركة دولية لهزيمة العالم وتأسيس خلافة جديدة، الأمر الذي يذكرنا بلهجة خطاب الحرب الباردة التي كانت تحذرنا من الخطر الشيوعي العالمي.
وعلى الرغم من هذه الجهود استمرت حقائق الحرب وأثرت كثيرا على الرأي العام وثبتت صحة استطلاعاتنا الاولى حيث استمرت الحرب طويلا ولم تسر بشكل جيد واودت بحياة الكثيرين واهتزت الاساطير وتوقف الشعب عن التصديق.
لقد كان ابراهام لنكولن يقول: تستطيع ان تخدع بعض الناس بعض الوقت وبعض الناس طول الوقت ولكنك لا تستطيع ان تخدع كل الناس كل الوقت وأضيف فأقول احذروا نقمة الناخبين.
فالمخاطر في هذه الحالة كثيرة ولا ينبغي اهمالها. فالبعض منا عارض الحرب قبل ان تندلع وكان ذلك لأننا كنا نعرف انهم لا يقولون لنا الحقيقة حول تكاليفها وعواقبها. وحين قابلت بعض قادتنا العسكريين في 2005 حذرت من قنبلة الرأي العام الزمنية بأنها ستنفجر وينحسر التأييد للحرب.
بعد كل ما قيل ينبغي الاشارة إلى بعض الحقائق. فرغم الضرر الحاصل علينا ان نلتفت لتحذير السيناتور باراك اوباما بألا نغض الطرف عن الانسحاب من العراق كما فعلنا عند غزوه. نحن علينا التزامات نحو أمن المنطقة وحلفائنا واصدقائنا في الشرق الأوسط ونحو الشعب العراقي لتهيئة الظروف لحل سياسي اقليمي يوفر قدرا من الاستقرار في العراق. ليس بوسعنا الآن ان نأوي إلى الانعزالية في وقت يتحتم فيه عمل الكثير لاعادة بناء الثقة بحلفائنا واصدقائنا الذين يستحقون دعمنا.
ان المهمة طويلة لاصلاح كل هذه الفوضى التي صارت في العراق والمنطقة ككل، والطريق للبداية يكون بتعلم الدرس من هذه الحرب: قولوا الحقيقة للشعب الأميركي.
جيمس زغبي
رئيس المعهد العربي الأميركي