الثورة هي مفردة إجتماعية سياسية تُعبر عن حركة الشعوب في طلبها للحرية والعدل والسلام ، وللثورة سياقات متنوعة ترتبط بوعي الشعوب وحاجتها للتغيير وتحقيق الأهداف في الخير العام والسعادة ، ولأنها كذلك فهي قيامة شعب ضد الظلم والإستبداد والفساد ، وتكون الحاجة إليها طبيعية ونفسية حينما يعجز الشعب عن تصحيح أوضاعه بالطرق الدستورية والقانونية ، ومفهومها الشعبي هذا يرتبط بكونها تنطلق من الواقع وتعبر عنه ، وهكذا هي طبيعتها المادية المنضبطة بقواعد إجتماعية وعرفية معينة ، وهي ليست هي فوضى أو أن لا نظام لها ، وفي التاريخ الشرقي والغربي حدثت ثورات غيرت وجه الحياة وكان لها أثرا في بناء الدول والمؤوسسات وساعدت في تنميتها وتطويرها .
والثورة لا تكون صحيحة وصادقة الا اذا قدمت نفسها بإعتبارها الحل المنطقي والواقعي للمعضل السياسي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي الذي يعيشه الشعب ، والحل يجب ان يكون عملياً وليس مجرد شعارات وخطب أو إدعاءات .
ولهذا يكون عمل الثوار طويلا ووممتداً كذلك يجب أن تكون نفوسهم ، ولا يحسب المرء في عداد الثوار إن لم يمتلك من الرؤية والحكمة والشجاعة ما يجعله عاكساً لتطلعات الناس وهمومهم ، وفي هذا الصدد تكون : - الثورة العراقية ككونها ليست بدعاً من الثورات التي حدثت في التاريخ بل هي من سنخها - ، لكنها تختلف بحسب المواضع والوضع العام ، وأما مطالبها التي عبر عنها شباب العراق وشاباته رجاله ونسائه بشكل واضح وجلي خلال الأيام التي مضت فهي كذلك ، وفي المقابل كان هناك عملا ردئياً عكس الوجه الحقيقي لأعداء الثورة وعكس هذا الكم الهائل من الخوف والجبن ، حينما مالوا للسلاح وقتلوا فيه الثوار بدلا عن التحاور معهم والإستماع لمطالبهم والتعهد الجازم بتغيير الحال على نحو صحيح فوري وناجز ومن غير مماطلة أو تسويف .
إن دماء الثوار خير شاهد على عمق المأساة والبون الشاسع بينهم وبين أعدائهم من القتلة والمجرمين ، إذ لم تكن ثورة العراقيين داعية للحرب أو القتال أو داعيةً لذلك ، إنما خرجت بعفوية وتلقائية وعلى شكل تظاهرات سلمية من رحم الشعب ومعبرة عن همومه اليومية وحاجاته التي لم تجد حلولا مع طول الإنتظار ، إن قوى السلطة الحاكمة المتعاقبة لم تستفد من المُهل ولم تنفذ من الوعود ما كان يساهم في تحقيق التطلعات ، ولم تبدي السلطة كثير إهتمام لما يجب أن تقوم به ، بل راحت تعاند وتماطل وتعمل على الضد من تلك التطلعات وزادت في التسويف والخداع ، وأوغل البعض منهم في السرقات والنهب والإحتيال والفساد ، ومعاونة الإرهابيين على كسر عزيمة العراقيين وهمتهم .
إن قضية الشعب العراقي متعددة الجوانب والأطراف ، ولكي تُحل نحتاج إلى عمل عظيم يتكافأ مع عظم القضية وعظم أهدافها وعظم الاخطار المحدقة بالعراق الشعب والدولة ، ان طموح الشعب الثائر كبير جداً ، يعبر عن طموح إنسان وادي الرافدين ذلك الإنسان الأصيل المحب للخير والحياة ، و المتميز في مجال عمله والذي كان له الدور البارز في صناعة الحضارة والتاريخ البشري ، إن تجريد الثوار من خياراتهم وحصر تظاهراتهم في المسائل المعيشية والوظيفية ، تقزيم متعمد وحرف عن المسار ، صحيح إن بعض التظاهرات مطلبية وهذا حق ، ولكن لا ينحصر دور التظاهر في رفع الحيف الشخصي كما قد يتوهم البعض ، ولا هو دفعاً لبعض الأخطار والظلم الذي عمل عليه الأعداء عبر هذه السنيين الطويلة .
إن هدف الثوار ليس مجرد الرفض أو الشجب أو التنديد ، بل هو هدف نبيل تتوضح معالمه :
1 - في الوحدة الوطنية وإلغاء المحاصصة الطائفية .
2 - العمل على صياغة عقد إجتماعي وميثاق دستوري جديدين .
3 - تغيير الدستور على نحو كلي ، والعمل على تأسيس وبناء علاقات دولية جديدة سواء مع الجيران أو غيرهم .
4 - إعادة صياغة مفهوم معنى المواطنة وتعريف معنى الهوية الوطنية .
5 – التوكيد على قيم الشخصية العراقية وعدم المساس بها وصيانتها ، والدفاع عنها في كل المحافل والمراكز والدول .
6 - تغيير خارطة العمل السياسي الحالي بما يتناسب وحجم التطلعات .
7 - الفصل الصحيح بين السلطات والتأكيد على إستقلالية القضاء وعدم إعتبار القضاة مجرد موظفين تابعين لهذا الطرف أو ذاك .
8 - التأكيد على سيادة القانون على الجميع ودون تمييز .
9 - العمل على محو الصورة النمطية لهذه الديمقراطية المسخة ، والعمل الجاد الدؤوب لبناء عراق ديمقراطي حر مستقل غير منحاز يحتوي الجميع ويعيد لهم عزتهم وكبريائهم .
10 - إعتبار العراق دائرة إنتخابية واحدة تؤكد على نفي المحاصصة الطائفية والقومية البغيضة .
إن هذه القواعد العشرة إحتاجت بطبيعتها إلى كل هذه التضحيات والدماء ، ورسالة العراقي التي يقدمها للناس والحياة من خلالها ، هو التوكيد على مبدئية الثورة وإنها ليست مجرد غضبة شعب و لكن لها ما بعدها وما يليها ، ومن هنا نستنكر بشدة الأوصاف غير اللائقة التي يتعمد بعض الإعلام الحزبي وصفه لها .
نعم لقد تمكن العراقيون من طرد المحتل رغم ضعف الأمكانات وتقاعس البعض وميوعة البعض الأخر ، تمكنوا من ذلك بالإرادة والإيمان وشجعوا حتى المترددين على تبني المبادرات الخلاقة في هذا المجال ، إن مواصلة الشعب حركته اليومية دليل على وعي راسخ ، في أن حلم الدولة العادلة لن يغادر مخيلتهم يوما ما ، ولم تشغلهم عن ذلك الهدف حتى سطوة الإرهاب وما كان يفعله بالناس وبالدولة .
لذلك لم يهدأ هذا الشعب وبقي متمسكاً بخياره الدائم نحو التغيير ، وفي ذلك المسير دفع بسلسلة من الممارسات و الإعتراضات والمظاهرات التي ملئت شوارع العراق بطوله وعرضه ، وهو اليوم أكثر إيماناً وعزيمة على أن التغيير واجب بعد هذا الكم الهائل من الدماء الزكية ، وأما التراجع أو الوقوف بنصف الطريق فلم يعد ممكناً ، ولم تعد محاولة أعداء الثورة زرع الفتنة والدس والتشويه وخلق المبررات والقول - بنظرية الفراغ - ، الحكومي والدستوري وهو فراغ يظنون أنهم هم الأهل في ملئه وسده قادرة على ثني الشعب عن هدفه ، ولم يعد الكلام عن الفراغ الدستوري يشغل حيز الثوار أو يعجزهم عن ممارسة حقهم في التظاهر ورفع الصوت عالياً .
إن المنتفعين والمنافقين الذين زيفوا الواقع ورسموا هذه الصورة المسخة للعراق ، يريدون من ذلك الإمعان في التضليل والنكاية وزيادة في النهب والسلب ، إن الشعب يعرف تماما ماذا يريد ولذلك لا يشغله هذا الكلام الواهن ، كما إن العالم جميعا يتفق معنا بأن هناك ثمة هوة شاسعة بين الشعب وبين هذه الزمرة الحاكمة ، والعالم يُقدر همة العراقيين في أخذ زمام المبادرة وتصحيح الأوضاع ، إذ ليس صحيحاً أن يبقى هؤلاء المتخلفين ومن في ظلهم أوصياء ومتحكمين بالشعب ، فهؤلاء هم من ضيعوا أموال العراق وطاقاته ، عبر سن مجموعة من القوانين المزيفة :
أ - كقانون رفحا .
ب - وقانون تقاعد أبناء العرب الذين كانوا في عهد صدام .
ج - وتوزيع أراضي على المهاجرين سواء منهم الذين في الغرب أو إيران .
وهذه أبشع القوانين التي سنتها تلك السلطات التافهة ، تاركين الشعب وقوآه الإجتماعية من دون حتى ما يسد رمقهم أو يعينهم على الحياة .
وهنا يخطر على بالي دوما تلك الطامة التي أتى بها - بريمر - الحاكم المدني السيء الصيت ، و الذي قسم العراق إلى طوائف وملل ، فأسس للفراغ الذي يتكلمون عنه اليوم عبر هذا التشظي في الجسد العراقي الواحد ، ان المحتل ومن على شاكلته قد أسسوا لهذا الزيف الذي تشرب بنفوس البعض حتى أصبح جزءا من ثقافتهم وقيمهم ، صار ويكأنه الشيء الطبيعي الذي لا مخرج عنه ولا محيص ، من هنا نقول : - إن الثورة هي القادرة على إعادة قيم الحياة الصحيحة للعراقيين - بعد أن داست عليه قوى المحتل وعلى قيمه فمسختها.
إن شعب العراق بتضحياته وبدماء أبنائه قادر إنشاء الله أن يعيد للعراق بعض ألقه وبعض نوره ، صحيح إنه في ذلك يقدم الكثير من التضحيات ويتحمل الكثير من الظلم والعجرفة ، ولكن تلك ضريبة الحرية والعدالة والأمن والسلام ، وثمة ما يوحي بأن التاريخ الإنساني يعيد إنتاج نفسه من خلال مواقف العراقيين البطلة هذه ، المواقف غير الآبهة بالموت والمتحدية للمخاطر ، وطالما كان الهدف نبيل والغاية عظيمة تكون المخاطرة ويكون الإقدام ، وفي ذلك نشر لقيم الحرية والعدل والسلام في محيطهم العربي والإسلامي كله .
إن التاريخ شاهد على أن الشعوب التي تتعرض للظلم تكون أكثر قابلية على صنع مستقبلها الزاهر وإنتاج قيم الحياة الحرة فيها ، وستكون تجربة العراق الحديثة نبراسا للجميع للذين يريدون الحياة والتقدم والإزدهار ، وهاهي لبنان وتشيلي يحذوان حذوه وقد تحركت شعوبهما من وحي حركة العراقيين ووثبتهم .
إن ثورة العراقيين ليست تقليداً للغير ، إنما هي إنتاج معرفي وفكري وثقافي عراقي خالص ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشعوب الحرة ذات الحضارة والعمق التاريخي هي من تصنع الحياة لها وللغير ، إن مناصرة هذه الثورة ودعمها في المستويات الممكنة هي مهمة واجبة على الجميع دون إستثناء .
لقد سمعنا من البعض قولاً سيئاً يزدري دماء العراقيين ويتهمهم وينعتهم بنعوت شتى منها ، ما يتعلق بعدم الفهم وعدم الوعي وعدم التقدير الصحيح ومنه ما يتعلق بالإتهام بالعمالة للأجنبي ، متناسين صمود الشعب وجهاده الطويل الذي كان ضد الدكتاتورية وحكومة البعث المنقرض ، ومتناسين قدرة العراقيين على الصبر والتحمل والمجالدة ، وبدل أن يخاطبوا الشعب ويكسبوا وده راحوا يحطون من كرامته ويزيدون في وجعه ، إن الثورة إذن كانت نتيجة وليست سبباً ، نتيجة لهذا التراكم وهذا التعمد في تدمير قيم العراقيين وثقافتهم ، لذلك لا يبالي العراقي بهذه الأصوات النشاز ، وسيظل وفياً لقيمه وما هو صحيح وصادق من حاضره وماضية ..