الجدل من أكثر القوانين عمومية التى تحكم تطور الطبيعة والمجتمع والفكر. وقد سبق التصور العلمى للجدل تاريخ طويل من التطور. لقد أكد الفلاسفة فى القديم تأكيدا قاطعا تحول الوجود واعتبروا العالم صيرورة. وافترضوا تغير فى كل شيء. ونجد هذا عند هيرقليطس وبعض الفلاسفة الملطيين، والفيثاغوريين.
ي غير أن مصطلح الجدل لم يكن قد استخدم بعد. ومصطلح الجدل "فن الجدل" يعنى فى الأصل فن النقاش والتجادل أى فن الجدل بطريقة الأسئلة والأجوبة. وقد اعتقد أرسطو، الذى لم يفهم علم الجدل عند هيرقليطس، أن الجدل من اختراع زينون الأيلى الذى حلل الجوانب المتصارعة فى مفهومى الحركة والتعدد. وقد فرّق أرسطو بين الجدل، أى علم الآراء والاحتمالية، وعلم التحليلات أى علم البراهين. يمكن اعتبار زينون الإيلى أبو الجدل. فزينون وجد فى بداية عصر السفسطائيين، وكانت للفلسفة فى زمانه منزلة عظيمة، فقد كان حكام أثينا وأصحاب الرأى فيها يستقدمون الفلاسفة ويستضيفونهم فى بيوتهم ويغدقون عليهم الأموال ويستمعون إليهم ويتعلمون على أيديهم. وزينون يعتبر من المدرسة الايلية وأستاذاها برمنيدس. ولقد قال برمنيدس أن الوجود واحد ثابت، وقد آمن بذلك تلميذه زينون وأراد أن يدافع عن مذهب أستاذه " الوجود الواحد الثابت"، فلجأ من أجل ذلك إلى طريقة غير مباشرة، فاستعمل الجدل والمنطق وحدة ذكائه ووضع حججه التى كان يقصد بها البرهنة على أن كل المذاهب التى تقول بالكثرة والتغير والحركة تفضى قطعاً إلى التناقض. وعن هذا الطريق يثبت الأصل ببطلان النقيض. ويلاحظ أن الدقة المنطقية ودقة الاستدلال عند زينون كانت دقة واضحة. وقيل أن زينون بهذا المنهج كان سفسطائياً. نعم، كان سفسطائياً ولكنه كان ذكياً جداً، إنه كان يريد الدفاع عن مذهبه بأى سبيل فأوجد تلك الحجج التى تدل على الذكاء المفرط والعبقرية، فهى تكذب بالواقع المشاهد حتماً ولكن العقل لا يستطيع تكذيبها، بل إنها تضعه فى حيرة وذهول، لأنها تسير حسب أصول المنطق الصحيح. وقد قال أرسطو عن زينون أنه مؤسس علم الجدل، من حيث أنه كان يسلم بإحدى قضايا خصومه ويستنتج منها نتيجتين متناقضتين ويثبت بذلك بطلانها . أما حججه وكيف وصلت إلينا فقد احتفظ سمبلقوس بحججه عن إبطال الكثرة بعباراته نفسها. وقد ساق أرسطو بعض حجج زينون فى إبطال الحركة وصاغها فى لغته الأرسطية. أن حججه فى نقد الكثرة غير مهمة. أما حجج زينون فى نقض الحركة، وفى اللا تناهي، فهى المهمة، وسوف نذكرها باختصار، فأغلبنا يعرفها: 1- الحجة الأولى وتسمى الثنائية لأنها تقوم على القسمة الثنائية المتكررة، وتتلخص فى أنه لكى يمر جسم من مكان إلى مكان آخر، لا بد له أن يمر بكل المسافات الموجودة بين كلا المكانين، وعلى هذا فإذا تحرك جسم من – أ – لكى يصل إلى – ب – فإنه لا بد أن يمر بالمنتصف وليكن – ج -. لكن قبل أن يصل إلى – ج – لا بد له أيضاً أن يكون قد مر بمنتصف المنتصف وليكن – د – ولكن أيضاً قبل أن يمر بالنقطة –د – أن يمر بمنتصف الربع، وهكذا دواليك. فإذا كان التقسيم لا متناهياً فإنه لا يمكن أن يصل إلى النقطة المطلوبة وهى – ب – إلا إذا مر بما لا نهاية له من النقاط، ولما كان من غير الممكن أن يقطع جسم ما لا نهاية له من النقاط فى زمن متناه، فمعنى هذا أنه لا يمكن مطلقاً أن يصل الجسم إلى هدفه، أى لا يمكن للحركة فى المكان أن تحصل. فعلى أساس المقدمة الأولى، الحركة إذاً غير ممكنة. 2- الحجة الثانية. يقول زينون فيها إن أسرع العدائين لا يمكن أن يلحق بأشد الأشياء بطئاً فى الحركة إذا كان هذا الشيء سابقاً له بأى مقدار من المسافة. فإذا تصورنا مثلاً أن أخيل وهو العداء السريع موجود فى مكان ما وأن هناك سلحفاة تسبقه بمسافة ما، فإذا بدأ الاثنان معاً الحركة فى لحظة واحدة، فإن أخيل لن يلحق بالسلحفاة، وذلك لأنه لكى يلحق بها لا بد له أولاً أن يقطع المسافة بينه وبين المكان الذى بدأت منه السلحفاة بالسير، ولكن السلحفاة تكون قد تحركت عندئذ ويجب على أخيل أن يلحقها ويقطع المسافة التى قطعتها فى المدة التى قطع هو فيها المسافة الأولى، فتكون السلحفاة قد قطعت أيضاً مسافة ثالثة فى هذه المدة، وهكذا كلما أقترب منها سبقته. إذا فالحركة غير ممكنة. 3- الحجة الثالثة وهى حجة السهم، ويقول زينون فيها ما معناه: لو تصورنا أن سهماً انطلق من نقطة ما لكى يصل إلى نقطة أخرى، فإن هذا السهم لن يتحرك، وذلك لأنه من المعروف أن الشيء فى "الآن" يكون غير متحرك، ولتوضيح هذه المسألة نقول أن من المسلم به أن الشيء فى "الآن" ساكن. لأننا إذا سئلنا عن الشيء أين يوجد فى هذا "الآن" قلنا أنه يوجد فى - أ – أو فى – ب – أو فى - ج -. . الخ، ففى كل "آن" يوجد فيه الشيء المتحرك، فى أثنائه ساكناً. وعلى هذا فإذا كان الزمان مقسماً إلى عدة وحدات كل منها هى "الآن"، ولما كان وجوده فى "الآن" وجوداً ساكناً، فإنه سيكون ساكناً باستمرار، والحركة مستحيلة. ويمكن أن تذكر هذه الحجة بطريقة أخرى وهي: أن الجسم إما يتحرك فى مكانه أو خارج مكانه وليس له غير ذلك، ولكننا نرى أنه لا يستطيع التحرك فى مكانه لأنه إذا تحرك غادره، وهو أيضاً لا يستطيع أن يتحرك خارج مكانه، لأنه موجود فى مكانه، فكيف يتحرك خارج مكانه وهو موجود فى مكانه. 4- الحجة الرابعة وهى تقوم على تفاوت المسافة المقطوعة من قبل جسمين مع تساوى سرعتهما. إذا تصورنا ثلاث قطع متساوية وطول كل منها 4 وحدات، ووضعناهم بشكل متواز، وثبتنا واحدة وهى – أ - وحركنا الاثنتان باتجاه متعاكس إلى أن تصبح القطع الثلاث على صف واحد، إن الذى حصل أن القطعة – أ – قد مرت بوحدتين من القطعة – ب – وكذلك مرت بوحدتين من القطعة – ج – أما القطعة – ب – فنجدها مرت بأربع وحدات من القطعة – ج – وكذلك القطعة – ج – مرت بأربع وحدات من القطعة – ب – فى نفس الزمن. والآن فإنه تبعاً لمبدأ الرئيس فى علم الحركة، أنه إذا تحرك جسمان متساويان فى السرعة فإنهم يقطعان نفس المسافة فى مدة واحدة، فإننا نجد هنا أن النتيجة التى وصلنا إليها تناقض هذا المبدأ، لأن الشيء الواحد قطع المسافة وضعف هذه المسافة فى زمن واحد. إذاً فالمقدمة باطلة ومعنى هذا أنه ليس ثمة حركة والحركة غير ممكنة. والآن إذا نظرنا إلى حجج زينون هذه، وجدناها قابلة للنقد. وقد تصدى لنقدها كثير من الفلاسفة والمفكرين، وقد أثارت هذه الحجج الكثير من الجدل حولها، والقيمة التاريخية لهذه الحجج أكبر مما نتصور، وكان على كل باحث فى الطبيعة أن يحسب لهذه الحجج حسابها، ولهذا نرى أفلاطون وأرسطو يجدان نفسيهما مضطرين إلى الرد عليها قبل أن يبحثا فى الحركة. والكثير من المفكرين تكلموا عنها فبرغسن فى كتابه "التطور الخالق" رد على الحجة الأولى فى نقد الكثرة. ولقد أظهر زينون فى حججه الكثير من المسائل الهامة مثل : - مسألة التغير والصيرورة. - مسألة الوجود وخصائصه. - مسألة الحركة والزمن. - مسألة الكل وعلاقته بأجزائه. - مسألة الاتصال والانفصال. وحججه لعبت دوراً هاماً فى تاريخ وتطور الفلسفة من بعده. وكذلك كان لحجج زينون الفضل فى ظهور علم النهايات "التفاضل والتكامل" على يد ليبنتز ونيوتن. فزينون بحججه عن اللا تناهى وضعنا أمام مشكلة كان حلها إيجاد حساب اللا نهايات. وزينون عندما تكلم عن وجود المكان ضمن مكان أظهر أبعاد جديدة للوجود. واكتشف زينون نسبية الحركة وهذا ظاهر فى حجته الرابعة، ولكنه لم يقبل به واعتبره تناقض وغير صحيح. وهو أظهر التناقض فى هذا الوجود بشكل واضح. وحجة السهم تظهر عبقرية زينون، وقد ثبت صحتها، فعقلنا يدرك الصور الثابتة فقط ويبنى منها إحساس الحركة، والتصوير السينمائى أثبت ذلك فهو مؤلف من صور ثابتة يجرى تحريكها بواقع 25 صورة بالثانية. لقد أوضح زينون نسبية الحركة، وهذا يظهر فى كل حججه الرامية إلى إبطال الحركة، فحجة أخيل والسلحفاة تدلنا على أن ألشيئين المتحركين لا يمكن تحديد سرعتيهما بالنسبة لزمن مطلق فيجب قياس سرعة كل منهما بالنسبة إلى زمن عنصر راصد لكل من السرعتين، وزمن الإنسان هو الذى تقاس كل من سرعة الأخيل وسرعة السلحفاة بالنسبة له. ولقد عرف أيضاً العلاقة بين المكان والزمان فقد قال أن كل شيء يوجد فى مكان وكذلك المكان يجب أن يوجد فى مكان..... أى تكرار الوجود المكان فى المكان هو الذى ينشئ الزمان. وهذا يشبه قليلاً ما قاله أينشتاين: أن الزمان بعد رابع. إن فكرة الزمان عند زينون لم تكن واضحة كما هى لدينا الآن، فهو يفرق بين الزمان والحركة مع أنهما شيء واحد، فالحركة توجد الزمان. وهو يعترف بوجود الزمان ويبرهن عدم وجود الحركة مع أنهما شيء واحد. إن طبيعة المكان والزمان منذ أن أثارهم زينون، ووضع فيهما أرسطو كلمته، لم تستقر الفكرة عنهم حتى اليوم، فديكارت وليبنتز ونيوتن وكانت وأينشتاين، لكل منهم مذهب يخالف الآخرين، وهذا "كانت" مثلاً يزعم أن المكان والزمان فى أنفسنا "عقلنا" نفرضهم فرضاً على الأشياء الخارجية حين ندركها، وليس لهما حقيقة وجود خارجية. وإذا كان القدماء قد رفضوا فكرة زينون فى انقسام المسافة إلى مالا نهاية وسخروا منه، فإن الرياضيين المحدثين "والفضل فى ذلك يرجع إلى ليبنتز" قد رأوا أن هذا الانقسام واقعى ولابد من حسابه، ومن هنا نشأ الحساب اللانهائى أو ما يسمى بحساب التفاضل والتكامل. هذا وقد رد أنكساجوراس على زينون بحجتين: الأولى، أن المعانى تتحرك فى العقل، لأن التفكير حركة بين المعاني. والثانية، عدم وهمية الإحساس، لأن الحواس حقيقية. هل كان زينون بحججه يريد أن ينكر العالم الحسي؟ بتاتاً. هل ينكر أنه كان يمشى فى شوارع "أيليا"؟، وإذا مد يده فهل ينكر أنه مدها؟، وهل إذا خرج من بيته إلى مكان آخر ينكر أنه تحرك؟. الظاهر أنه لا يريد ذلك وإلا كانت فلسفته مهزلة. وهب أنه يريد أن يقول إن هذا العالم الحسى وهم، فذلك لا يمنع من المطالبة بتعديل هذا الوهم نفسه: كيف نشأ، وما علاقته بالحقيقة الخالدة؟ ثم أليس الوهم فى ذاته حقيقة كالحقيقى سواء بسواء كلاهما موجود وكلاهما ينشد علته؟ سمّ هذه الصحيفة التى بين يديك وهماً، أو سمها حقيقة، فلا تحسب أن اختلاف الأسماء لا يزحزح الموقف قيد أنملة. لقد كان زينون مثل كل إنسان يريد أن يعرف حقيقة الوجود المطلقة بعقله، وهذا غير ممكن لأن عقل الإنسان له بنيته وخصائصها التى يعمل بموجبها. فالعقل لا يعمل إلا ببنيات محددة ثابتة، وبنيات الوجود متحركة وغير محددة. وعبقرية زينون الفذة كانت قدرته على الوصول إلى أسس التفكير البشرى وإظهارها بهذا الجدل الفكرى العميق. لذلك يجب الانطلاق من المرحلة التى وصل إليها