ورد إلى ذهنى عنوان هذا المقال وأنا أتابع ما حدث من إرهاب مروع فى 13نوفمبر من هذا العام حيث قُتل 130 من الشعب الفرنسى. وورد أيضاً بعد قراءتى لكتاب صدر فى أكتوبر من نفس ذلك العام تحت عنوان «كيف يفكر الفرنسيون» لمؤلفه سودير هازارينغ عضو الأكاديمية البريطانية. واللافت للانتباه قول مؤلفه أن كتابه يصدر فى لحظة تعانى فيها فرنسا من وجود دولة مضطربة بمعنى أن حاضرها ومستقبلها موضع قلق.
ث
م هو يصدر فى نفس ذلك العام الذى حدث فيه هجوم ارهابى على المجلة الساخرة «شارلى إبدو» وسوبر ماركت فى باريس فى شهر يناير من قبل ثلاثة شبان فرنسيين أصولهم من مهاجرين. وبالرغم من المظاهرات العارمة التى وصل عدد المتظاهرين فيها إلى المليون ونصف المليون فى اليوم التالى لذلك الحدث فإن الاحساس بالرعب وعدم الأمن والأمان كان هو المهيمن. ومن ثم تساءل الفرنسيون: هل فى الإمكان المحافظة على إعمال العقل المتجذر فى ثقافتنا التى امتازت بأنها مثال يحتذى؟ ثم تساءلوا ثانياً بعد أن كانوا فى حالة زهو من أن تمثال الحرية بأمريكا هو من صنع النحات الفرنسى فردريك بارتولد، ومن أن علم البرازيل عليه شعار «النظام والتقدم» للفيلسوف الفرنسى أوجست كونت مؤسس علم الاجتماع. ثم تساءلوا ثالثاً بعد أن كانوا فى حالة منا لاحساس بالعظمة فى أن فيلسوفهم العظيم رينيه ديكارت فى القرن السابع عشر هو الممهد لتأسيس عصر التنوير فى أوروبا فى القرن السابع عشر. ومن هنا كان من المنطقى أن يكون عنوان الفصل الأول من كتاب «كيف يفكر الفرنسيون» «جمجمة ديكارت» المحفوظة فى «متحف الانسان» بباريس.
والسؤال اذن:
لماذا جاء عنوان الفصل الأول «جمجمة ديكارت»؟
لأنه هو الذى حرر أوروبا بوجه عام وفرنسا بوجه خاص من الأوهام التى كانت متحكمة فى العصور الوسطى المظلمة.
والسؤال اذن:
كيف؟
بالدعوة إلى بتر التراث ثم إعمال العقل فى البحث عن الأفكار الواضحة والخالية من الغموض التى تكون أساساً لبناء براهين عقلية على إشكاليات الحياة من غير معونة من أى سلطة حتى لو كانت سلطة دينية. وقد أصبحت هذه الدعوة متجذرة فى العقل الفرنسى إلى الحد الذى يمكن يقال عنده أن أى فرنسى هو ديكارتى, سواء كان على وعى بذلك أو لم يكن. ومن هنا قال عنه رئيس الحزب الشيوعى موريس توريز فى محاضرة ألقاها بجامعة السوربون فى عام 1946 إنه كان ومازال يحرضنا على الايمان بالعقل وعلى أن الانسان سيد مصيره.
ومع ذلك كله أصيب الفرنسيون بالاحساس بالرعب وعدم الأمن والأمان من جراء ما حدث من هجوم ارهابى فى 13 نوفمبر من هذا العام.
والسؤال اذن:
لماذا تولد هذا الاحساس؟
تولد بسبب جواب المؤلف أن فرنسا فى صيف عام 2013 شاعت فيها الروح السلبية إلى الحد الذى قيل عنده إنها فى الطريق إلى «الانحلال» وأن الفرنسيين أصبحوا أبطال أوروبا فى التشاؤم. ومع ذلك فإن المؤلف يفتتح كتابه بعبارة ملهمة لوزير خارجية فرنسا دومينيك دى فيلبان قالها فى فبراير عام 2003 أمام مجلس الأمن بمناسبة الشروع فى اتخاذ قرار باستخدام القوة ضد نظام صدام حسين،وجاءت على النحو الآتى: «إن إشعال الحرب ضد النظام العراقى له نتائج كارثيةعلى استقرار المنطقة. قالها وهو على ثقة من أن المجتمع الدولى قادر على بناء عالم متناغم لأنه حارس للمُثل وحارس للضمير. ومن هنا يمكن ارساء سلام بلا حرب». إلا أن عبارته جاءت على الضد من نوايا أمريكا وبريطانيا التى كانت تشى بضرورة شن الحرب. وعندما تجسدت النوايا فى اعلان الحرب على العراق تاهت العبارة الملهمة التى قالها وزير خارجية فرنسا ثم توارت، وبعد ذلك ساد التشاؤم. وكان من شأن ذلك أن اندفع الفرنسيون إلى «انغلاق أنانى» وإلى الحنين إلى عصورهم الذهبية. ومن ثم حدث صراع بين النخب حول ما أسموه «أزمة هوية». ومن هنا ابتدع رئيس الدولة ساركوزى وزارة للهوية القومية فى إطار معاداة الاسلام، ومن ثم أصبحت الحركات الاسلامية مهددة لهذه الهوية. وفى هذا المعنى صدر كتاب فى خريف 2003 عنوانه «الهوية التعسة» لأحد المفكرين الفرنسيين.
والسؤال بعد ذلك:
ما السبب فى بزوغ «الهوية التعسة» ليس فقط فى فرنسا بل فى أوروبا وأمريكا أيضاً؟
بحكم خبرتى الدولية ابتداء من عام 1968 حتى الآن أستطيع القول بأن السبب مردود إلى توهم أوروبى أمريكى بأن التنوير حالة غربية غير صالحة للشيوع فى الدول غير الغربية بوجه عام، والدول الاسلامية بوجه خاص. والمفارقة هنا أن هذه الدول أصبحت على قناعة بهذا الذى توهمته الدول الأورو– أمريكية. ومن هنا شاعت العداوة ضد التنوير إلى الحد الذى أصبحت عنده هذه العداوة كوكبية. وفى هذا المناخ نشأت «مدرسة فرانكفورت ومعهد البحوث الاجتماعية» (1923-1950).
فكرتها المحورية أن التنوير ينطوى على نقيضه وهو معاداة التنوير. وقد بزغت هذه المعاداة عند كل من النازية والفاشية، ومن ثم تحول التقدم الذى هو فى صميم التنوير إلى البربرية وما لازمها من عداوة السامية.وقد شاعت أفكار هذه المدرسة فى اوروبا وأمريكا. ومن ثم كان لابد من إعادة النظر فى مفهوم التنوير. وتجاوب العالم الاسلامى مع هذه المدرسة إلى الحد الذى أصبح عنده معادياً للتنوير واتهم دعاته بالكفر والالحاد.
وعندما يتوارى التنوير يتوارى معه السلام ويكون البديل بزوغ الأصوليات الدينية مع بزوغ الارهاب وشيوعه بالضرورة لأنه أعلى مراحل هذه الأصوليات.