لقد حظيت فلسفة هيغل بتأثير بليغ على الفكر الحديث، وكان ممن تأثر بها إلى حد بعيد هو كارل ماركس الذي قلب له الأمور رأسا على عقب:
إذ أن جدلية هيغل هي عبارة عن عملية أو ديناميكية تمضي وفقها جميع القضايا من الأمثل فالأمثل نحو “الفكرة المطلقة” وقد سميت “بالجدلية المثالية”. بينما رأى ماركس عكس ذلك وقال بصريح العبارة أن منهجه الجدلي هو “العكس المباشر”(1) لمنهج هيغل وأن “جدلية الأفكار ليست سوى انعكاسا لجدلية المادة”(2). لذلك اتخذ من مفهوم الجدلية المادية، مع رفيقة إنقلز، أساسا ومنبعا لحركة التاريخ وتطور الفكر. -------------------------------------------------------------------------------- “إن الفيلسوف الشهير هيغل الذي عاش في أواخر القرن 18 وبداية القرن 19، قد أتى بمساهمة عظيمة حول الجدلية، لكن جدليته كانت مثالية […]. وإن ماركس وإنقلز قد أخذا بعين الإعتبار وبروح نقدية، الجوانب العقلانية لجدلية هيغل” ماوتسي تونغ -------------------------------------------------------------------------------- يقول ماو تسي تونغ موضحا الفرق بين هذين الإتجاهين: “إن الفيلسوف الشهير هيغل الذي عاش في أواخر القرن 18 وبداية القرن 19، قد أتى بمساهمة عظيمة حول الجدلية، لكن جدليته كانت مثالية […]. وإن ماركس وإنقلز قد أخذا بعين الإعتبار وبروح نقدية، الجوانب العقلانية لجدلية هيغل”(3).واعترف ماركس نفسه بمساهمة هيغل في تعميق مفهوم الجدلية فقال: “لقد أصبحت الجدلية بين يدي هيغل روحية لكن هذا لا يمنع بأنه أول من بين أنواع الحركة العامة للجدلية بجميع خصائصها”(4). وهكذا نرى، في هذا السياق، أن هيغل قد ذهب في تصوراته إلى أقصى حدود المثالية بينما ذهب ماركس في تحاليله إلى أقصى حدود المادية. فغاص الأول في باطن الأمور حتى لج في أعماقها، وقلب الآخر اتجاه المسيرة فولج في ظاهر الأمور طلبا لأسبابها. وقد أيقن أحدهما أو كاد يوقن، بارتقائه في سماء المثالية، بالذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بينما جحد الثاني بآيات ربه فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض. وكثيرا من أهل الكتاب من اعتنق مذهب المثالية لهيغل بينما وجد أنصار المادية ضالتهم في جدلية ماركس. وقد سادت هذه التصورات الفكرية والفلسفية في القرن العشرين على وجه الخصوص، فحملت أمما و شعوبا على طرفي نقيض: بين اتجاه ليبرالي “مثالي” واتجاه شيوعي “ثوري” يأخذ بأرضية الواقع. 6- بين يونغ وفرويد ولم يتوقف التناوب الفكرى بين المثالي الروحي والواقعي المادي عند هذه المجالات فحسب، وإنما تعدى إلى غيره من الميادين مثلما هو الشأن في علم النفس التحليلي على وجه الخصوص. إذ تطور المنظور المثالي لأفلاطون في العصور الحديثة، لدى العالم النفساني يونغ(5)، مثلما كان الأمر بالنسبة لهيغل كما سبق. فقد اعتبر يونغ المثل العليا اللاشعورية(6) من الأسباب الأساسية في تأويل سلوك الأفراد والأمم، من خلال اللاشعور الفردي والجماعي. وكان الأستاذ مالك بن نبي(7) يردد أن ميلاد الفرد المنتمي إلى حضارة ما، كالمسلم مثلا، ليس بالذي يوجد على بطاقة تعريفه ولكن هو الذي سجل في لاشعوره بداية من انطلاق تلك الحضارة بكل روافدها الثقافية والمدنية (أي منذ أربعة عشر قرنا بالنسبة للمسلم). وبصفة موازية، تطور كذلك الفكر “الواقعي” الذي يأخذ بظاهر الأمور و”أرضيتها” في مجال العلوم النفسية، مع نظرية فرويد باعتباره لطاقة الليبدو “السفلية” في مقابل المثل اللاشعورية “العلوية” ليونغ، مثلما فعل ماركس في مجال السنن الاجتماعية باعتباره، كما سبق، للجدلية المادية بدل الجدلية المثالية. بالفعل فقد انتقد فرويد، بناء على اعتباره هذا، كلا من خصميه آدلار و يونغ، فاتهم الأول بأنه: ” أنكر الغريزة الليبدنية لصالح غريزية الأنا “(8) وقال عن الثاني أن ما دفعه إلى الانشقاق هي “الرغبة في إبعاد العناصر القبيحة التي تتسبب في العقد العائلية [مثل عقدة أوديب] لئلا يجدها ثانية في مجال الدين والأخلاق”(9). ولخص في النهاية الفرق بينه وبينهما في قوله، وهو تلخيص غني عن كل تعليق: “أتمنى رحلة سعيدة في أعالي المرتفعات للذين لم يتحملوا البقاء [معنا] في العالم الأرضي لعلم التحليل النفسي”(10). وهكذا تفرقت الآراء بين من لمس في النفس جانبها العلوي المتميز بغرائز “تقواها” وبين من توخى فيها الجانب السفلي المتمثل في دوافع “فجورها” : {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } (الشمس 91/7-10). -------------------------------------------------------------------------------- “أتمنى رحلة سعيدة في أعالي المرتفعات للذين لم يتحملوا البقاء [معنا] في العالم الأرضي لعلم التحليل النفسي” فرويد -------------------------------------------------------------------------------- 7- نزاع في مجـال العلوم الطبيـعية إن أمر التناوب الفكري بين المنتصرين للمثالية الباطنية على غرار حي بن يقظان والمنتصرين للواقعية الظاهرية على غرار روبنسون كريزوئي لا تقتصر على المجالت الفلسفية أو العلوم الانسانية فحسب وإنما يتعدى ذلك إلى مجال العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء على سبيل المثال. ولنا على وجه الخصوص في علم الفلك عبر جليلة وآيات بينات. فلنتوقف قليلا عند هذا العلم الجليل، لنتأمل في مدى اشتمال ذلك التناوب على جل القرائح والمذاهب. إن قصة الكون وتطوره، من نشأته أو منطلقه الابتدائي إلى منتهاه أو مصيره النهائي، قد شغلت الورى منذ فجر التاريخ وهي اليوم من أهم المواضيع المطروحة في مخابر البحوث. وإن الدراسات والمنشورات في هذا المجال كثيرة متوفرة(11)، لذا سوف نقتصر في تأملاتنا على نظرية الانفجار العظيم(12) التي أصبحت اليوم من المسلمات الفلكية وتعرف في الأوساط العلمية “بالنظرية الأساسية”(13). تنص هذه النظرية على أن الكون انطلق في الانتشار والتوسع ابتداء من “ذرة ابتدائبة”(14) وذلك بعد انفجار عظيم. وقد توالت الأدلة المؤيدة لهذه الأطروحة، منها على وجه الخصوص تباعد المجرات فيما بينها وحالة التوسع الكوني وإثبات خلفية الإشعاع الكوني(15) الصادرعن ذلك الانفجار الكبير. وقد وقع حول هذه النظرية صراع أيديولوجي شديد في الأوساط العلمية بين مؤيد اقتنع بفكرة الخلق من لدن خالق أعلى وبين معارض يرفض فكرة الخلق وينتصر لالإلحاد(16). ولابأس أن نذكر في هذا السياق تعليقا لأليكسندر فريدمان(17) الذي كان من أوائل الدارسين لتلك النظرية. فقد انطلق فريدمان من نظرية النسبية(18) وتبين له أن الكون يمضي نحو احتمالين اثنين(19): إما سيتراجع عن التوسع فينطوي على نفسه حتى النقطة الأولى وينهار كليا(20)، وإما سوف يستمر في التمدد إلى الأبد. وكلا النموذجين: الأول (وهو النموذج المغلق) أو الثاني (وهو النموذج المفتوح) يقوم على فرضية الانطلاق من “الذرة الابتدائية” أو نقطة البداية. والسؤال المطروح عندئذ: ماذا وراء تلك النقطة الأولية؟. يقول فريدمان معلقا على ذلك: “ليس بين تلك النقطة وفكرة الخلق إلا خطوة واحدة”(21). وهكذا نري أن صوت الإيمان يقرع بقوة في آذان علماء الفلك الحديث وفي ما سواهم من الراسخين في العلم، غير أنهم اختلفوا إلى فريقين: فريق ازداد إيمانا كأمثال القسيس لوميتر مكتشف “الذرة الابتدائية”، وفريق استحب الإلحاد على الإيمان فراح يسعى بكل قواه في إنشاء نظريات كونية غير نظرية الانفجار العظيم ولا تمت بصلة إلى فكرة الخلق، كأمثال هويل(22) وبعض رواد الفيزياء الفلكية في الاتحاد السوفياتي السابق(23). وما اختلاف الفريقين إلا نموذج آخر بين المعتقدات الباطنية لحي بن يقظان والمعتقدات الظاهرية المادية لروبنسون كريزوئي. وقد ذهب كل فريق منهما يسعى مسعاه في حل لغز مسألة المنتهى: إلى أين المساق؟. 8- بين الإيـمان والإلـحاد وفي نهاية المطاف ندرك بأن الجدل القائم منذ غابر الأزمان، كما هو واضح من خلال النزاعات السابقة، إنما يعود في أصله ولبه إلى تدافع بين فئتين على طرفي نقيض، يتخللهما طيف متواصل من الاتجاهات والاعتقادات من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ألا إنهما أهل الإيمان الذين صدقوا وعرجوا بدرجات متفاوتة إلى من له المثل الأعلى، وأهل الإلحاد الذين جحدوا وأخلدوا إلى الأرض فسقطوا دركات إلى الهاوية. وقد جاء في الذكر الحكيم مثل الأولين بين أنصار الإيمان وأنصار الإلحاد. كما وردت فيه نماذج عديدة عبرة للآخرين، منها على وجه الخصوص ما جرى لأهل الكتاب في العهود الخالية وما لذلك من آثار بليغة في العصور الحديثة. ويتعين علينا في هذا السياق ذكر ما جاء عن أهل الكتاب لإلقاء الأضواء على كثير من الاتجاهات العقدية أو الفلسفية وإدراك الخلفيات التي تقف من وراء بعض كبرى المجريات الحاضرة. 8 . 1- أهل الكتاب بين فريقين لقد كانت سفينة نوح عليه السلام فيصلا بين عهد خلا منذ آدم عليه السلام وبين عهد جديد شهده من نجا على متن تلك السفينة ومن تناسل عنهم وانتشروا في الأرض من بعدهم. وكان إبراهيم من شيعة نوح عليهما السلام، فاتخذه الله عز وجل خليلا وجعله أبا للمسلمين: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} (الحج 22/78). لقد كانت سفينة نوح عليه السلام فيصلا بين عهد خلا منذ آدم عليه السلام وبين عهد جديد شهده من نجا على متن تلك السفينة ومن تناسل عنهم وانتشروا في الأرض من بعدهم. وكان إبراهيم من شيعة نوح عليهما السلام، فاتخذه الله عز وجل خليلا وجعله أبا للمسلمين: (الحج 22/78).وكتب الله عز وجل في ذرية إبراهيم عليه السلام النبوة والرسالة، فكان من سلالته بنو إسرائيل الذين فضلهم الله أيما تفضيل وأصبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وأرسل إليهم موسى عليه السلام لنصرتهم من فرعون وجنوده وهدايتهم لالإيمان والعمل بالتوراة، ثم انحرفوا إلا المتقين منهم وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة وأحبوا المال حبا جما، فأشربوا في قلوبهم العجل الذي صنعه السامري من الذهب. قال عز وجل عنهم: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمتين} (البقرة 2/93). وأرسل المولى عز وجل إليهم المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وأنزل معه الإنجيل ليردهم إلى رشدهم ويهديهم سبل السلام، لكنهم كفروا بنعم الله عليهم وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة وهموا بقتل المسيح عليه السلام فأنجاه الله منهم ورفعه إليه: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } (النساء 4/157). وكان من أتباع المسيح الحواريون الذين انتصروا لله: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} (آل عمران 3/52). فكان منهم النصارى الذين وقعوا في شبهات التثليث وابتدعوا رهبانية لم تكتب عليهم: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} (الحديد 57/27). وهكذا انشق أهل الكتاب إلى فريقين: فريق منهم آثروا الحياة الدنيا: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} (البقرة 2/96)، واثاقلوا إلى الأرض والتصقوا بها. وكانوا أكثر التصاقا وتمسكا بالذهب الذي ابتلوا به (وما يليه من فضة وكل نفيس)، فتداولوه جيلا بعد جيل على مدى أحقاب وأزمان، وتمكنوا بمهارة ومكر من السيطرة على أرباب المال والأعمال وبسط نفوذهم عبر مؤسسات دولية على المعمورة كلها. وفريق منهم زهدوا في الحياة الدنيا واعتزلوا لذاتها مما أحل الله للعباد، وقالوا بأن ملك الله في الآخرة، واعتقدوا أن ما لقيصر فهو لقيصر وما لله فهو لله. وهكذا اختلف الناس على غرار هذين الفريقين بين اتجاهين متناظرين: أحدهما يغوص في أعماق الماديات والآخر يهيم في أعالي الروحانيت. وفي ذلك خير نموذج لمن سلكوا سبيل حي بن يقظان أو انتهجوا منهج روبنسون كريزوئي. ونرى من قصة أهل الكتاب أن الزيغ والضلال يكونان في عالم “المثالية” المتطرفة كما يحصلان في أرض “الواقعية” المادية، غير أن أحد الاتجاهين “أقرب مودة” من أهل الإيمان والآخر “أشد عداوة” لهم. ولا بد إذن من منهاج أصيل يعود إليه الانسان للخروج به إلى شاطئ الأمان. 8 . 2- المنهاج الوسطي فكان من رحمة الله عز وجل أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، من سلالة إبراهيم عليه السلام، وجعله خاتم النبيين وأنزل معه القرآن لهداية البشرية جمعاء إلى الوسطية بين غلو هؤلاء وأولائك: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (البقرة 2/143)، وبين أن ذلك منهاج إبراهيم عليه السلام الذي زاغ عنه أهل الكتاب: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} (الحج 22/78). ولولا فضل الله عز وجل في بعثة المصطفى رحمة للعالمين لضل الناس أجمعين، جيلا بعد جيل إلى يوم الدين، بين تيه في غياهيب الروحانيات ولج في غيابات الماديات. وترى اليوم تكالب شرار المعمورة في محاربة هذا المنهاج الرباني كما كانوا يصنعون ذلك بالأمس. فهم يسعون بشتى الوسائل للطعن في رسول الله وهو خير البرية، وتحريف كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمساس بالمقدسات كالقدس الشريف التي إنما هي شعائر ومنارات للبشرية جمعاء، والنيل من أعراض الذين يأمرون بالقسط من الناس . لكن الذي بعث بخاتم النبيين وأنزل الفرقان هدى للعالمين، يقول وهو أصدق القائلين: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كر ه الكافرون} (الصف 61/8). والله يهدي السبيل وهو ولي التوفيق.