«وعاظ السلاطين» واحد من أهم الكتب التى قامت بتشريح التاريخ الإسلامى على طاولة علم الاجتماع، كتبه عالم الاجتماع العراقى الشهير على الوردى الذى تعرض بسببه لهجوم شديد،
نظراً لمنهجيته الصارمة ومحاولته الدائبة للحفر فى بئر التاريخ للوصول إلى صفاء الحقيقة بعيداً عن ركام السائد والمألوف والمشهور والمنتشر، وبرغم أنه قد كتب فى منتصف خمسينات القرن الماضى فإننا نحتاج قراءته مراراً وتكراراً، خاصة فى هذه الظروف الضبابية التى قفز فيها وعاظ السلاطين من مقاعد ومنصات الوعظ وتزييف الوعى إلى مقاعد وقصور الحكم أيضاً، فصار الواعظ حاكماً وصار الحاكم واعظاً، فاختلطت الأوراق وخدرت العقول وتاهت البلاد والعباد، ومنذ فجر التاريخ ومخ المواطن مستهدف من قِبل الكهنة والوعاظ، ومنذ بدء الخليقة والحاكم يستخدمهم لتحويل الشعب إلى قطيع والمواطنين إلى رعية سهلة القياد، تارة بإيهامهم بأنه خليفة الله فى الأرض ومبعوث العناية الإلهية وإذا خرجوا عليه أو اعترضوا على قراراته فهم يخرجون على الله ويكفرون بمن يتسربل بردائه، وتارة أخرى بحضهم على الخنوع والخضوع والتفكير فقط فى حياة الآخرة وترك هذا العرض الدنيوى الزائل والزهد فى نعيم الأرض الفانية فى الوقت الذى ينعم فيه هؤلاء الوعاظ بالمال والنساء والسلطة والمنح والعطايا والإقطاعيات، يتركون للغلابة السُّم وينعمون هم بالدسم!، كانت أسلحتهم فى الماضى مجرد كتب وخطب ومنابر، أما الآن فقد اشتد الخطر وعظم البلاء فقد صارت أسلحتهم فضائيات وإنترنتات وصالونات أرستقراطيين وأرستقراطيات ورحلات حج وعمرات، صناعة الواعظ الآن صناعة مضمونة الربح عظيمة التأثير تمنح صاحبها الهيبة والمكانة بمجرد افتتاح كشك لبيع بضاعة الكلام المخلوط ببهارات التخويف والتفزيع والترهيب لكى يصعد فضيلته على سلالم رعشتك وارتجافتك وانسحاقك، مجرد جلباب باكستانى أبيض وطرحة وهابية على طاقية صينية طالبانية مزركشة مع مخاصمة لماكينة الحلاقة وتدريب على شحن أقل ملكات العقل الإنسانى وهى ملكة الحفظ والترديد والتسميع والتلقين مع اغتيال ووأد وخنق وإجهاض ملكة العقل النقدى الإبداعى ومعها كل علامات الاستفهام وأدوات أعمال المنطق وإغلاق أى ثغرة فى باب الاجتهاد وبالطبع شطب لكل المجددين الدينيين على مر التاريخ الإسلامى حتى لا يتلوث المخ ويخرج عن قضبان الاتباع والعنعنة وأحادية الفكر المتطرف، بعدها تمنح درجة واعظ السلطان على الطريقة الوهابية الحديثة وتفتح لك الأبواب الموصدة وتصير نجماً فى مجرة محكوم عليها بالانفجار والخروج من دائرة الزمن والتاريخ والحياة إلى حيث الفناء لأنها لا تؤمن ببديهية أن التغير والتبدل والتطور هى سنة الحياة والثابت الوحيد فيها.
يبدأ الكتاب فى مقدمته بحقيقة صادمة للبعض وهى أن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده، فواعظ السلطان، كما يقول «الوردى»، حين يقول لا تنظر إلى المرأة ربما أراد وقتها أن يقول «لا تنظر إلى جوارى غيرك»، وهو حين يقول «إياك والحسد» لعله يقصد «لا تحسد غيرك على امرأة اشتراها بحلال ماله»، والغريب أن نراهم يستنزلون غضب الله على الفقير الذى يغازل جارية بينما هم يباركون الغنى ويهنئونه على تلك الجوارى اللواتى اشتراهن من السوق وكأن الفرق بين الحلال والحرام فى نظر هؤلاء هو الفرق بين وجود المال وعدمه.
«الخليفة مزدوج الشخصية إذا جاء وقت الوعظ بكى، وإذا جاء وقت السياسة طغى»!! أعجبتنى هذه العبارة، ذات الدلالة التى لم تغيرها العصور والأزمنة، كتبها د. على الوردى وهى لا تعبر عن ازدواجية حكام العراق فقط، ولكنها ما زالت تنبض بالحقيقة حتى هذه اللحظة، يؤكد كتاب «وعاظ السلاطين» أن مصدر هذه الازدواجية هو الصراع ما بين بداوة القلب وإسلام اللسان الذى عاش فيه تاريخ المسلمين فى معظم فتراته، وبالتحديد مع بداية الفتنة الكبرى، يصف «ابن جبير» فى رحلاته هذه الازدواجية بقوله: «البكاء عند سماع الوعظ أصبح غاية لذاته فى نظر البغداديين فهم لا يبالون بنقص الكيل فى الأسواق واستغلال الغريب ولكنهم فى مجلس الوعظ يبكون ويشهقون ثم يغمى عليهم»، يخلص «الوردى» إلى نتيجة من قراءاته التاريخية أنه كلما كان الظلم الاجتماعى أشد كان بناء المساجد وتشجيع الوعظ أكثر، ويعلق على الوردى على ما يسمى مهنة الوعظ، قائلاً: «لقد صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الأموال، وتمنحه مركزاً اجتماعياً لا بأس به، وأخذ يحترف مهنة الوعظ كل من فشل فى الحصول على مهنة أخرى، إنها مهنة سهلة على أى حال فهى لا تحتاج إلا إلى حفظ بعض الآيات والأحاديث ثم ارتداء الألبسة الفضفاضة التى تملأ النظر وتخلبه، ويستحسن فى الواعظ أن يكون ذا لحية كبيرة كثة وعمامة قوراء، ثم يأخذ بعد ذلك بإعلان الويل والثبور على الناس، فيبكى ويستبكى، ويخرج الناس من عنده وهم واثقون بأن الله قد رضى عنهم بمجرد سماعه، ويأتى المترفون والحكام فيغدقون على هذا الواعظ المؤمن ما يجعله مثلهم مترفاً سعيداً»! ويضيف «الوردى»: «الواقع أن الوعاظ والطغاة من نوع واحد، هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم، وأولئك يظلمونهم بأقوالهم، فلو أن الواعظين كرسوا خطبهم الرنانة على توالى العصور فى مكافحة الطغاة وإظهار عيوبهم لصار البشر على غير ما هم عليه الآن».
الوعاظ صنعوا وصمتوا عن وشاركوا فى الصناعة الوحيدة التى أتقنها العرب، ألا وهى صناعة الطغاة، سأنتقى لكم بعض الأبيات التى شاعت فى فضاء الخلافة، وهذه عينة فقط:
ماذا ننتظر من «الرشيد» حين يقال له: «كأنك من بعد الرسول رسول»!، وماذا ننتظر من المعز الفاطمى حين يقال له: «ما شئت لا ما شاءت الأقدار ** فاحكم فأنت الواحد القهار»، وماذا ننتظر من «المتوكل» الذى وصف بأنه «ظل الله الممدود بينه وبين خلقه»!!.
إذا خرج الطاغية عن تعاليم الدين وصفه وعاظ السلاطين بأنه مجتهد، ومن أخطأ فى اجتهاده فله حسنة، أما إذا جاء الفقير برأى جديد قالوا عنه إنه زنديق وأمروا بصلبه على جذوع النخل!!، الواعظ اهتم فقط ببكاء «الرشيد» عند سماع عظاته، لكنه لم ينتقد الألفى جارية والستة ملايين درهم التى نثرت تحت قدمى مغنية منهن، والمائة ألف دينار التى اشترى بها جارية أعجبته أو الأخرى التى اشتراها بستة وثلاثين ألف دينار ثم أهداها لصديقه فى اليوم التالى!!، لا إدانة للحاكم الذى زرع بذور الشغب بترفه، إنما كل الإدانة من الوعاظ وقتها لهؤلاء المشاغبين الذين كانوا يصلبون على جذوع النخل بفتوى جاهزة!.
«النجاح أحياناً يكون بمثابة القبر الذى يدفن فيه المبدأ» عبارة مهمة كتبها على الوردى فى كتابه الرائع «وعاظ السلاطين» سلاطينيجيب بها عن سؤال لماذا أحياناً بعد نجاح الثورات تنحرف البوصلة ويموت المبدأ الذى قامت من أجله، عدسة علم الاجتماع عندما تسلط على التاريخ وتقرأ الأحداث بنظارة عالم اجتماع جسور مثل «الوردى» تكتسب هذه الأحداث نكهة مختلفة ولكنها صادمة، خاصة لعقول تربت فى حضن التسليم والإذعان والعنعنة والسمع والطاعة وتأليه الحاكم، منطق الوعاظ من وجهة نظر «الوردى» فاشل، لأنه يتعامل مع الإنسان على أنه مشروع ملاك وبمنطق ثبات الأشياء وسكونها ويتجاهل التغيير والتناقض وطبيعة البشر.
طرح «الوردى» عدة أسئلة صادمة بقراءة جديدة للتاريخ الإسلامى، من ضمن الأحجار التى ألقاها «الوردى» فى بحيرة الإجابات الجاهزة الراكدة شخصية «أبى ذر» الذى تم تهميشه ونفيه ومطاردته حياً وميتاً ومنع تشييعه ووداعه لصالح الأغنياء، لأنه لم يعترف بأن الزكاة كافية فقط للعدالة الاجتماعية، وأنه يجب على الأغنياء أن يعطوا الفقراء الأموال التى يكنزونها زائدة عن الحاجة، بالطبع أربك هذا الرأى حسابات الأرستقراطية القرشية، فبدأت الدسائس ضد هذه الشخصية الأسطورية، ضد هذا البدوى الوحيد الذى دخل الإسلام قبل الهجرة وأسلم قبل أن يقابل النبى، وبالطبع خرجت تفسيرات لمعنى الكنز تناقض كلامه، ومنها تفسير «القرطبى» الذى قال إن الكنز بالفعل كان محرماً فى بدء الدعوة أما بعد استغناء المسلمين فالكنز فى نظر «القرطبى» جائز!، صدمة أخرى عن الوهم الذى عشنا فيه كل هذه القرون والمسمى بـ«ابن سبأ»!! برغم أن «مروان» فى الفتنة الكبرى بتصرفاته كان سبأياً حتى النخاع!، كل الرذائل والخطايا التى أصيب بها المسلمون محركها من وجهة نظر التاريخ الإسلامى هو عبدالله بن سبأ لدرجة أننى تخيلت أنهم سيتهمونه فى وباء انفلونزا الطيور!، يقول طه حسين «عبدالله بن سبأ وهم من الأوهام»، ويقول «الوردى» إنه اختراع، ويختتم الفصل الخاص به بقوله «ابن سبأ موجود فى كل زمان ومكان، فكل ثورة يكمن وراءها ابن سبأ فإن هى نجحت اختفى اسم ابن سبأ من تاريخها وأصبحت حركة فضلى، أما إذا فشلت فالبلاء نازل على رأس ابن سبأ»!.
صدمة أخرى فى قراءة «الوردى» المبتكرة لشخصية «أبى جهل» لا بد أن تثير حفيظة من تعود على تقديس القديم بلا نقاش، كتب «الوردى»: «الفرق بين أبى جهل وغيره من نبلاء قريش فى الشخصية لم يكن كبيراً فمعظمهم كان من الطبقة المرابية المستغلة المتعالية، ومن سوء حظ أبى جهل أنه قُتل فى معركة بدر فى صف المشركين، فنال لعنة الأبد، ولو أن الصدفة ساعدته كما ساعدت غيره فنجا من تلك المعركة ثم بقى إلى يوم الفتح فأسلم لصار من كبار القواد الذين رفعوا راية الإسلام!! إنها مسألة صدفة، وإذا كان أبوذر رافع راية المساواة الاقتصادية فإن عمار بن ياسر رافع راية المساواة الاجتماعية»، وكان يتساءل كما قال «الوردى» فى كتابه: هل استسلمت الأرستقراطية القرشية أم أسلمت؟، والغريب أنه بعد الإسلام الذى نزل لمساواة البشر كأسنان المشط كان بعض القرشيين يطلقون عليه العبد مثل «مروان وابن العاص وخالد»… إلخ!.
كتاب «وعاظ السلاطين» عصف ذهنى مستمر فى كل صفحة من صفحاته، ولا بد لكل مهتم من قراءته، والأهم من القراءة الفهم والنقاش والتحليل.
لتحميل الكتاب
http://www.4shared.com/file/31803102/6828a8ba/__.html?s=1