عندما خرجت الليبرالية من رحم عصور التنوير الأوروبي، وقدمت إلى البلدان العربية والإسلامية على أجنحة البعثات العلمية والاستشراقية، وبين حراب الاستعمار الغربي المدسوسة بين قيم ومبادئ حضارية يبشر بها المستعمر، كان لدعاة هذه الليبرالية الوافدة نصيب وافر في المنابر الثقافية والمنافذ الإعلامية التي أطلوا من خلالهـا
على جماهير الأمة،ناهيك عن أدبياتهم التي نطقت بحقيقة أفكارهم النهضوية وبلورة مواقفهم الفكرية إزاء الإسلام ديناً ومنهاجاً شاملاً للحياة، وباعثاً أساسياً لأي مشروع يهدف لنهضة الأمة الحضارية، كما كشفت عن طبيعة مشروعهم الحضاري المتصل بحبله السري بالفلسفة الغربية المادية، فكان خطابهم مغايراً وداعياً للإنصات والمراجعة والدراسة، خصوصاً أنه يدعو للحرية ويتسلح بالديمقراطية ويؤكد القيم الإنسانية والمبادئ الحضارية طريقاً للإصلاح المنشود في شتى مجالات الحياة وبرامج التنمية مستنداً إلى التجربة الحضارية الغربية، بحكم أن الأمم تستفيد من بعضها، فالحضارة تبقى تراكماً إنسانياً. غير أن هذا الخطاب المشبّع بالمبالغات الإيجابية والأحلام الوردية عن قدرة الليبرالية على حل المشاكل الإنسانية والإجابة عن كل الأسئلة الحياتية، هذا الخطاب الذي لقي قبولاً في أوساط الليبراليين العرب، قد أوجد (حيرة فكرية) بين السعوديين منهم، كونهم لم يحسموا بعد كثيرٍ من مواقفهم الفكرية الجذرية، خصوصاً أن هذه الحيرة الفعلية تتشكل على بضع مسائل جوهرية في علاقة الليبرالية بالدين والتاريخ والفكر.. وهي كالتالي: المسألة الأولى: ماهية الليبرالية عن طبيعة الليبرالية.. لك أن تسأل أي ليبرالي يجلس بجوارك، أو آخر يقبل حوارك، سواءً حسب فهمه لها أو قراءته عنها أو قبوله للبحث فيها، بحيث يمكن تحديد هذه الطبيعة من كون الليبرالية (ديناً وضعياً) أم (مذهباً فلسفياً) أم (فكراً بشرياً) أم (وسيلة حضارية)، فلا تستغرب عندما تكتشف أن الليبراليين اتفقوا بشكلٍ واضح على أنها ليست ديناً، ولكنهم اختلفوا في ماهيتها! فذاك يراها مذهباً فلسفياً في السياسة والاقتصاد تطور مع الزمن ليشمل مجالات الحياة كلها، وثانٍ يعتقدها فكراً بشرياً أنتجه العقل الغربي في ظل ظروف تاريخية معينة فصارت تجربة حضارية ناجحة قابلة للتطبيق في مواقع وأزمنة وبيئات مختلفة، وآخر يتصورها وسيلة حضارية للتغيير نحو الأفضل في طريقة التفكير وأسلوب الحياة وصولاً إلى المدنية الراقية بكل مجالاتها وتفاصيلها، بغض النظر عن دين أو ثقافة الأمة التي تتبنى الفكر الليبرالي. هذا التباين الجلي في تحديد (ماهية الليبرالية)، يجعل الرافضين لها أو على الأقل المهتمين برصدها يتشككون في مدى نجاحها في مجتمعهم القائم أصلاً على منهاج ديني، لأن التعاطي الفعّال مع أي شيء إنما ينبع من استيعابه وفهم طبيعته، ومن ثم الالتزام بقيمه ومبادئه الرئيسة. المسألة الثانية: فلسفة الليبرالية ومرجعيتها التحرر هو الجوهر الحقيقي لليبرالية، لذا فحرية الفرد (الإنسان) هي غاية الليبرالية، وهذا هو محور كل كتابات الليبراليين الفكرية وأدبياتهم ونقاشاتهم، فهم يرون أن يظل الإنسان حر الضمير والتصرف والاعتقاد، مالكاً لعقله ونفسه وحريته، غير خاضع لأي سلطان كهنوتي (ديني) أو إقطاعي (اقتصادي) أو استبدادي (سياسي)، إنما يخضع لسلطان العقل، وبهذا تتعارض هذه الفلسفة مع رؤية الإسلام بشأن الحرية التي تعتبرها محكومة بالدين وخاضعة لنصوصه المقدسة، لأن الغاية هي تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية إلا لله سبحانه، إذاً مكمن الحيرة أن فلسفة الحرية في إطارها الليبرالي لا تتجزأ، فإما أن تكون هذه الحرية خاضعة للعقل أو للدين، لذا فأبسط سؤال يمكن أن تطرحه على أي ليبرالي هو: ما هي مرجعية ليبراليتك؟ صدقني لأن يجيبك، فبعضهم لم يتمكن بعد من تحديد هذه المرجعية، لأنه حائر أصلاً بالمربع الأول وهو تحديد ماهية الليبرالية، فضلاً عن أن هذه المفردة - أعني المرجعية - تبدو غير واردة في إجابات العقلية الليبرالية، كون الإجابة الحقيقية عنها تكشف علاقة الليبرالية بالدين، أو بالأصح تفضح موقف الليبرالية من الدين، وهو موقف (إقصاء) عن الحياة، لذا تعتبر المرجعية هي فيصل الواقع بين الليبرالية والإسلام، وعليه سيكون موقفك الفكري بالنسبة لهذه المسألة على ثلاثة اتجاهات، اتجاه (الليبرالي الواعي) بجوهر الليبرالية وموقفها الفكري من الإسلام، وهذا الاتجاه لا يعنينا هنا، كونه بالأساس يُدرك (التضاد) القائم بين الفكر الليبرالي والفكر الإسلامي، بل ويؤمن أن الإسلام دين وليس منهاج حياة، وأن الليبرالية هي خياره الأمثل لنظام الحياة، والاتجاه الثاني هو (الليبرالي الجاهل) بحقيقة الليبرالية الفكرية ولكن سحره بريقها فسار في ركاب دعاتها دون أن يعي بشكلٍ جلي موقفها من دينه، وهذا سيتبدل موقفه حالما يرتفع رصيده المعرفي بشأن جوهر الليبرالية، إذاً يبقى الاتجاه الثالث وهو (الليبرالي الواهم) بالليبرالية من حيث توافقها مع قيم الإسلام وأنها لا تعارضه، وهذا الاتجاه هو الغالب في أوساط الليبراليين السعوديين، الذين لم يعوا بعد أن الإسلام وإن كان متوافقاً مع الليبرالية في المقاصد الخيرية والقيم الإنسانية، إلا أنه (يتعارض) معها تماماً في مسألة (المرجعية). المسألة الثالثة: أسلمة الليبرالية في الوقت الذي يرفض فيه الليبراليون أي نوع من الأسلمة، وبالذات أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية والنظريات الفلسفية، لأنها تدخل في إطار المشترك الإنساني العام الذي لا يملك أحد احتكاره، نجدهم يروجون لأسلمة الليبرالية تحت مصطلح (الليبرالية الإسلامية)، وذلك في محاولة يائسة لبلورة انسجام فكري بين (الليبرالية والإسلام) متجاوزين مسألة (المرجعية) التي أشرت إليه سلفاً، التي تضرب في جوهر هذا الانسجام الفكري المنشود، على اعتبار أن الليبرالية في رؤيتهم (وسيلة) شأنها شأن الديمقراطية، بينما الليبرالية هي (فكر) له جانب فلسفي واضح وهو (تحقيق الحرية الفردية)، وجانب حضاري أساس هو (تحكيم العقل البشري)، فإذا كان الدين لا يرفض الجانب الفلسفي لأنه من المقاصد الخيرية، فإنه لا شك يرفض الجانب الحضاري القائم على تحكيم العقل. المسألة الرابعة: تجربة الليبرالية لا يجد الليبرالي أدنى غضاضة في استدعاء التجربة التاريخية الغربية، التي تبرهن على نجاح الليبرالية، وعليه تتدافع المبررات في سياق التأكد أنها الخيار الحضاري الأمثل لهذه الأمة، ولكن في مسارات الحوار المفتوح وتجليات الفكر الحر يتم تحييد الشاهد (التاريخ) في حال الحديث عن التجربة الإسلامية، التي تشهد أن (الإسلام) هو الوحيد القادر بأمر الله على بعث الأمة من جديد وإحياء مشروعها الحضاري، حيث كانت حضارتنا الإسلامية تظلل أمم الأرض، خاصة وهي تختلف ب(عالميتها) في قيادة البشرية عن (عولمة) الحضارة الغربية، كونه يشهد بتجربة الأمة الفريدة، بما ينقض أصل فكرهم. بعد هذا الاستعراض لمسائل أزعم أنها تجسد واقع الحيرة لدى الليبراليين السعوديين، أجد أنه من الطبيعي أن يمارس كثيرٌ من هؤلاء الليبراليين (ازدواجية) بين المبدأ والتطبيق عند تقرير القيم الإنسانية في الحياة الاجتماعية، لأن هذه الازدواجية هي نتاج تلك الحيرة، الأمر الذي يتطلب حسماً واضحاً للموقف الفكري من تلك المسائل، سواءً كان هذا الحسم سلبياً بتبني الفكر الليبرالي الوافد، أو إيجابياً بالعودة إلى الفكر الإسلامي السائد، وحتى يتم ذلك فهم في حيرة، والحيرة تنزع ثقة الناس وتغيب وجهة النظر مهما كانت صحتها.