( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ، علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ، فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل ) – البقرة 187 -
وقبل الكلام في دلالة النص وتفسيره هذا بيان وتوضيح لغوي ولساني لمعنى - الرفث - في كتاب الله ، قال أبن فارس في المقاييس : - رفث - الراء والفاء والثاء ، أصل واحد ، وهو كل كلام يستحيا من إظهاره ، وأصله الرفث الذي هو النكاح ، والرفث : هو الفحش في الكلام ، قال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لما يريد الرجل من المرأة في سبيل الاستمتاع بها ، وقيل : هو الجماع ومقدماته القولية والفعلية ، قال أبن عرفه : إنه هنا الجماع ، وقيل : هو كناية عن الجماع ...
وفي تفسير هذا النص وبيان معناه يلزمنا أولاً : التعرف على أقسام هذا النص كلاً على حدة ، ومن ثم التعرف على طبيعة الجو الذي نزل به ، كيف كان ولماذا ؟ ، وإذا كنا في حلقاتنا المتقدمة قد رفضنا وأبطلنا مفهوم - سبب النزول في الكتاب المجيد - في الجملة بإعتباره مفهوماً لا معرفياً ولا علمياً ، وبأنه ليس سوى عقبة في طريق فهم النص مما يؤدي إلى نتائج سلبية في التعاطي مع النص وتقييمه ، كما أن - سبب النزول - هو استدعاء لحدث أو لمصداق وجعله الأساس أو الداعي لوجود النص ، وذلك ما يحد من النص ويقزمه ويجعله غير ذي معنى ، أقول : يجعله ساكناً في حدود الزمان والمكان ومتأثراً بهما ، ومن اجل تبديد هذا الوهم المصطنع المفروض علينا من غير دليل ، لذلك نقول ما معنى :
أولاً : قوله تعالى : - أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم - .
وثانياً : ما معنى قوله : - هن لباس لكم وأنتم لباس لهن - .
وثالثاً : وما معنى قوله : - علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم - .
ورابعاً : وما معنى قوله : - فتاب عليكم وعفا عنكم - .
وخامساً : وما دلالة قوله : - فالآن باشروهن - .
وسادساً : وما دلالة قوله : - حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر - .
ففي المعنى الأول : نجد إن هذه الجملة تتحدث في سياق منضبط موضوعي واحد ، تؤكد فيه على - أصالة الحليَّة - ، ذلك المعنى نقرأه في كتاب الله بكثافة ، والذي منه استمد الأصوليون قواعدهم الفقهية ، وأصالة الحليَّة تعني : إن الأصل في كل الأشياء هو - الحليَّة - أي إن الأصل هو الحلال ، وهذا الأصل هو الثابت وهو الذاتي وهو الدائم وهو المستمر ، والكلام هنا عن صفته الموضوعية التي تلامس أصل الحياة وما فيها من أشياء ، فمثلاً حينما يقول الله - أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم - ، فهذا القول إنما يتحدث عن هذا الأصل ، ولا يتحدث عن حُرمة الجماع الذي صار حلالاً ، بل يتحدث عن - أصل الحليَّة – وبقاء هذا الأصل على حاله ( أعني على حليَّته ) ، وبتعبير أدق ، النص يقول : إن - أصل حليَّة الجماع - هو الأصل الثابت الذي كان ولا يزال على حاله - ، ونصوص الكتاب المجيد في هذا المجال لو تدبرناها لوجدناها تتحدث وبنحو مطلق عن - أصالة الحليَّة - وبأنه الأصل الدائم الثابت ، نرى ذلك في :
1 - قوله تعالى : - أحلت لكم بهيمة الأنعام - المائدة 1 ، أي أن بهيمة الأنعام كانت حلالاً لكم ولم تكن حراماً عليكم ، إذ إن أكل لحوم الأنعام في الأصل كان حلالاً لكم ، ولا زال حكم الحليَّة باق على حاله ، ويعني هذا إن - أصل الحلية - في هذا النص هو الثابت ، والذي لم يرد في كتاب الله دليلاً على عكسه ، ولم يرد دليلاً على الحُرمة حتى الأخبار التي تُنسب إلى النبي - ص - أو بما يسمونه - بالسنة النبوية - ، كذلك ولم يدع ذلك واحدا من الفقهاء بحسب علمي ، إذن فالنص هذا إنما يؤكد على - أصالة الحلية - بإعتبارها هي الثابت في القيم وفي الأحكام وهو الدائم الذي لا يتغير ، إلاَّ بوجود القرينة الصارفة عنه .
2 - وقوله تعالى : - أحل لكم الطيبات – المائدة 4 ، وهذه العبارة أيضاً تتحدث عن - أصالة الحليَّة - بإعتبارها الثابت ، ولم تتحدث عن الطيبات ككونها محرمات ثم صارت حلالاً ، إذ الأصل في الطيبات هو الحليَّة الدائمة ، ولم ترد القرينة الدالة على عكس ذلك في التقييد أو التخصيص .
3 - وقوله تعالى : - أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة ، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حُرماً - المائدة 96 ، وهذا النص كذلك لم يقل إن - صيد البحر - كان حراماً عليكم ، ثم صار حلالاً !! ، النص لم يقل ذلك ، بل قال : إن - حليَّة - صيد البحر وطعامه هو الأصل الثابت وهو الحكم الشرعي ، وأما صيد البر فبقرينة يكون محرماً ، وتلك القرينة هي قوله - ما دمتم حُرماً - أي مادمتم في حال الإحرام - وقت الحج - ، ويعني هذا إن - صيد البر - ليس حراما بالمطلق ، إنما التحريم يكون في وقت معلوم وهذا الوقت هو وقت الإحرام ، ويعني هذا إن - أصل الصيد - في البحر وفي البر هو الحليَّة ، لكن صيد البر لعلة خارجية ولقرينة معينة يكون محرماً ، ومع إنتفاء هذه القرينة يرجع الأصل إلى حاله الأول وهو - الحليَّة - .
4 - وقوله تعالى : - وأحلت لكم الأنعام إلآَّ ما يُتلى عليكم - الحج 30 ، فالنص هنا يتحدث بنحو مطلق عن - أصل حليَّة الأنعام - ،ولايخرج عن هذه الأصالة إلاَّ بقيد وهذا القيد هو على سبيل المثال قوله - حُرمت عليكم الميتة ... والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاَّ ما ذكيتم - المائدة 3 ، وفي قوله هذا يكون الحلال هو الثابت وهو الدائم وأما الحرام فهو المتغير أو المستثنى ، والأستثناء يكون لعلة خارجية ، ذكرها أو عرفها بقوله : - ( الميتة والمنخنقة والمتردية والموقوذة والنطيحة وما أكل السبع ) ، ثم جعل الضميمة لهذا المثال بإستثناء ذكره بقوله - إلاَّ ما ذكيتم - ، فهذه التذكية هي بمثابة تصحيح وضع وإرجاع الأصل إلى حاله الأول ، وعليه تكون الحُرمة متعلقة بعلة خارجية ولا دخل لها في الأصل .
لكن ما معنى أصالة الحليَّة ؟ :
والجواب : إن الذي نفهمه من الكتاب المجيد هو : - إن الأصل في الأشياء الحليَّة - ، وهذا الأصل أولي وثابت في كل الأشياء ، ولا يتغير هذا الأصل إلاّ بدليل خاص أو إستثناءاً خاص يخرجه من الأصل وتدل على ذلك قرينة معينة ومعلومة ، ويعني هذا : - إن الحُرمة في الكتاب المجيد هي المتغير أو المستثنى ولا يكون ذلك إلاَّ بدليل خاص أو بقرينة معينة ، ولهذا تكون الحُرمة خلافاً للأصل ، ومن هنا جاء الأشتقاق القائل : - إن الأصل في الأشياء هو الإباحة ما لم يرد دليل خاص بتقييد أو إستثناء لهذه الإباحة - ومثلوا لذلك بقوله تعالى : - وكلوا مما في الأرض حلالاً طيباً - البقرة 166 ، وهذا المثال تأكيد على ما نقول ، إذ إن كل ما في الارض حلالا ، أي - إن الأصل فيه الحليَّة - ، ولا يشترط لوجود الحليَّة دليل خاص يدل عليها ، ولكن هذا الدليل يشترط لوجود الحُرمة ، لأن هذا الشرط بمثابة القيد الذي يخرجها من وضعها الأصلي الثابت إلى الوضع المتغير ، وهذا التقديم الذي عرضناه : هو بمثابة التأكيد والتوضيح على : - أن المُراد من قوله ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم ) ، ليس حرمة الجماع في ليلة الصيام ، إنما المُراد في هذا النص هو حليَّة الجماع في ليلة الصيام - ، وهذا هو الأصل الثابت الذي لم يتبدل ولم يتغير ، مادام ميثاق الزواج ساري المفعول فلا قيد ولا منع ولا تحريم قبل نزول هذا النص وبعده وإلى الأبد ، وبما إن النص يتحدث عن - ليلة الصيام - ولا يتحدث عن يوم الصيام ، وذلك لأن يوم الصيام يكون المنع فيه بدليل خاص متعلق بوضع الصيام وشرطه الواجب ، ولا ينجر هذا الوضع في ليلة الصيام بأي نحو كان ، وحين نقول ذلك فإنما نشير إلى دليل الإستثناء الخاص في هذا الشأن ، والدليل الذي نرمز إليه قائم في الأساس على نظرية التوازن - بين حاجات الجسد وحاجات الروح - ، وهذه النظرية هي التي أشير إليها في الكتاب المجيد بمفهوم - التقوى - ، ذلك المفهوم الذي يتأسس على التوازن في بُعديه الروحي والجسدي ، وهذا الذي نقوله يدحض ما ذهب إليه القرطبي في معنى - النسخ - الذي قال به في تفسيره لمعنى كلمة - أحل - حين قال : - يقتضي إنه كان محرماً قبل ذلك ثم نُسخ - تفسير القرطبي ج 2 ص 314 ، ويعني هذا حسب مُدعاه إن الجماع كان محرماً ثم نسخ ، وهذا التوجيه منه غير صحيح البتة ، ذلك لأن هذا التوجيه عنده مرتبط بشأن النزول أو بسبب النزول ، ونفس هذا الخطأ وقع فيه الشيخ محمد جواد البلاغي في تفسيره للنص المتقدم بقوله : - إن دلالة الآية على حُرمة الجماع في ليلة الصيام على نحو مطلق ، وإن بعض المسلمين أرتكبوا المُحرم ، ولذلك نسخ الله الحُرمة وأحل لهم الجماع - تفسيرالآء الرحمن ص162 ، وهذا الخطأ مُنبني في الأساس على مقولة - سبب النزول - التي أبطلناها في بحوث متقدمة سابقة ، ونفس الخطأ وقع فيه صاحب الميزان كما في تفسيره بالجزء 2 صفحة 44 .
وإن من الأثافي التي يقع فيها أكثر المفسرين ، هو تبنيهم من غير تحقيق وتدبر لتفسير الكتاب المجيد بحسب - المأثور - مع إن هذا المأثور ليس سوى أخبار وروايات جاءتنا مشوشة مضطربة وغالبها في المعنى وليس فيها خبر واحد يمكننا القول فيه - هكذا تحدث النبي محمد باللفظ والمعنى - ، وهذه التفاسير التي تعتمد المأثور ممتلئة بالحشو والقصص والخيال ، ومن يدقق في الكتاب المجيد يكتشف أن لا دلالة لهذا النص على تحريم النكاح في ليلة الصيام ولا دلالة على إباحته لا حقاً ، بل إن النكاح في ليلة الصيام كان حلالا في الأصل وبقي هذا الأصل على حاله الأول لم يتبدل ولم يتغير ..
وأما في دلالة قوله تعالى : - هُن لباس لكم وأنتم لباس لهن - ، هذا النص كما نفهمه ، هو أستئناف بياني وجواب لسؤال مُقدر ، وتقديره هو : - بما إن شهر رمضان هو شهر عبادة ، هل يجوز - الجماع - مع الزوجة في شهر رمضان مع إنه شهر عبادة ، أم إن ذلك كان مُحرماً ؟ ، والجواب عن هذا السؤال : ورد في النص بصيغة واضحة وبتبسيط نقرأه على هذا النحو : - إن الرجل بالنسبة للمرأة بمثابة اللباس لها والعكس بالعكس - وهي كناية عن الإحاطة والحماية والغطاء - ، واللباس هنا تعبير عن صيغة للحماية والستر من كليهما تجاه الآخر ، أو كناية يريد منها ما يقوم به الزوج تجاه زوجته ، ولا يُعد هذا خروج على العبادة المأمور بها ، لأن في العبادة يكون المطلوب عدم التفريط أو الأفراط ، بل لازمها الإعتدال والتوازن لذلك حَرم الله الجماع - يوم الصيام - بدليل قوله ( لعلكم تتقون ) - البقرة 183 ، ودليل التحريم : هنا هو في حصول التقوى بالعبادة المطلوبة ، ولكن هذا القيد - أعني قيد التحريم ينتفي في - ليلة الصيام - ، وفي ذلك يتم - التوازن - لحاجات الروح وحاجات البدن ، ومن علة التشريع نعلم كذلك طبيعة التعاون والتنسيق بين قوانين التكوين وقوانين التشريع ، وفي هذا التعاون والتنسيق يحصل التوازن المطلوب ، و العبادة هي جزء من التشريع لا يكون ولا يجب فيها غلبة لطرف على أخر ، لذلك نقول : - إن تحريم الجماع ليلة الصيام هو ضد التشريع ، لأنه ببساطة ضد الفطرة والطبيعة البشرية ، وكل تشريع يخالف الطبيعة والفطرة هو ممنوع وغير جائز ، ونقول أيضاً : وبما أن التشريع يصدر عن حكيم عادل فمن مقتضى حكمته وعدله ، أن يكون ما يصدر عنه يحقق هذا التوازن الطبيعي ولا يخل به ، وبذلك يكون التشريع قائما ومرتكزا على الحكمة والعدل فيما يخص حاجات الجسد وحاجات الروح .
لكن البعض من المفسرين ومن فرط المحبة الزائدة وعدم التدقيق ذهب بهم الخيال ليعتقدوا ويقولوا بنسخ حكم هذه الآية ، وتبديله من الحُرمة إلى الحليَّة ، على أساس ان الحاجة بين الذكر والأنثى للجماع حاجة طبيعية وماسة ، ولهذا نسخ الله حكمها وجعله حلالاً بناءً على هذه الحاجة وهذا الوضع ، ومن هؤلاء المفسرون - الزمخشري في تفسيره الكشاف - حيث يقول :
فإن قلت : ما موقع قوله - هن لباس لكم - ؟
قلت : هو إستئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو إنه إذا كانت بينكم وبينهن هذه المخالطة والملابسة قَلَ صبركم عنهن وصعب عليكم إجتنابهن ، فلذلك رخص لكم مباشرتهن - الكشاف ج1 ص 91 .
ولكن ما قاله الزمخشري ليس صحيحاً بدليل كون الحاجة الجنسية بين الذكر والأنثى حاجة طبيعية وضرورية ، ولا نقبل تعليل الزمخشري ووصف الحال بالصعب ، ذلك لأن التحريم - الموصوف بالصعب - لا اساس له ولا وجود في ليلة الصيام ، وإذا كان ذلك كذلك ، فنحن نستغرب منه ومن غيره الأتيان - بالنسخ كعلة - لرفع التحريم ، وبعبارة أدق : إن كان التحريم غير موجود في الأصل فوجود - علة النسخ للتحريم - قبل وجود الحرمة ، عبث وهراء لا دليل عليه ولا يجب ان يكون ، أي إن التحريم إن كان بحسب الوضع على خلاف الطبيعة والحاجة والحكمة والمصلحة فلماذا يشرع من الأساس ؟ ، والذي يجعل الزمخشري يميل إلى هذا الرأي هو إعتماده على مروية أبي هريرة وقصته عن عمر بن الخطاب وكيف جامع زوجته في ليلة الصيام مرتكباً الأثم والحرام ؟! ، وبما إننا نؤمن بان كتاب الله لا يخضع ولا يتأثر بقول الصحابة والصالحين ، لذلك نقول : قد أخطأ الزمخشري حين بنى تفسيره على قول الصحابي أو تعبد بقول الصحابي ، لأن التعبد أو ترجيح قول الصحابي على المنطق وعلى العقل هو خروج وأبتعاد عن الحقيقة وعن الحق الذي دُعينا إلى أتباعه ، و هو تقليد أعمى قد نُهينا عنه ، نعم في تلك الأزمنه ومع شياع حكم وسلطة التخلف يصعب ان نجد من يرفض أو يتصدى لهذا الهذيان ، لأن التصدي لذلك يُعدُ مجازفة لا يُقدم عليها أي واحد ، ومن يتقدم في هذا المجال تُكال له التهم ويحاصر ويبعد عن الساحة وتصادر أفكاره ويُشهر به ويُحرم ويُحكم عليه بالموت ، كما هي العادة الجارية في أعصارنا .
وأما دلالة قوله تعالى : - ( علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم ) - ، هذا القول جاء في صيغة إكمال المعنى الذي بدئه في الجملتين السابقتين ، هو إكمال بمثابة التوكيد على حليَّة الجماع في - ليلة الصيام - ، وعدم تحريم ذلك في الأساس إذ التحريم في هذا الشأن تكليف بما لا يُطاق وهو ممتنع على الله أن يأمر به ، والتحريم : هو بمثابة الدعوة للعصيان ولمخالفة الشرع ، ثم إن جملة - علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم - هي جملة إنشائية الهدف منها التوكيد على رعاية - التوازن - بين حاجات الجسد وحاجات الروح ، وهي هنا تشبه أو مثل قوله - هن لباس لكم ..- ، إذ لو إن الله قال : إن - الرفث - في ليلة الصيام حرام عليكم ، فهذا القول لا يستطيع تحمله المُكلف لكل الوقت ، والجملة هذه أو النص هذا هو جواب على سؤال تقديره هو : وهل يحتمل الزوج الإمتناع عن الجماع كل رمضان ؟ ولأن الله يعلم عدم قدرة البشر على ذلك فجعل – ليلة الصيام - مباح فيها الرفث لكي لا يرتكب الإنسان الخطيئة والمعصية ، إذن فالجواب على تلك الجملة يأتي من نفس سياق الحاجة والتوازن في حياة البشر .
وهنا لا بد لنا من أمعان النظر بقوله - تختانون أنفسكم - ، هذه العبارة إن جردناها من سياقها أعني من دون الربط بما قبلها وبما بعدها ، فلا نتصور لها مصداق عن الخيانة المذكورة ولا عن الذنب المذكور ، ولكن حين نضعها في سياقها الموضوعي أعني حين نربطها بما قبل وبما بعد قوله - الرفث إلى نساءكم - و ( الآن باشروهن ) نعرف إن مصداق الخيانة هو الجماع ، ولكن الجماع في الشرع ليس محرماً وليس خيانةً ، إذن فما هو الذنب وما هي الخطيئة ؟ وهنا نقول : الذنب هو ممارسة الجماع في - نهار الصيام - وذلك هو المنهي عنه وهو المحرم في الشرع ، وحين نعرف مصداق الخيانة نعرف معنى التحريم ونفهم معنى قوله - علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم - ومن هذا يتبين مفهوم الجملة المقدرة أو الجواب المُقدر على السؤال المُقدر الذي مر بنا - أي إن الخيانة تكون في النهار وليس في الليل - .
إذن ففي هذه المسألة هناك رأيين مختلفين :
الأول : رأي الجماعة التي تبنت مفهوم - سبب النزول - وتمسكت به ، أي إنهم قالوا بتحريم - الجماع - في ليلة الصيام بعد النوم ، ومن فعل ذلك يُعد مخالفاً للحكم الشرعي بزعمهم ، فيكون تقدير الكلام في الجملة عندهم على الشكل التالي ( علم الله - إنكم تفعلون الحرام وتخالفون الحكم الشرعي - لأنكم كنتم تختانون أنفسكم ) ، ومن بين هذه الجماعة - الشيخ الطوسي - الذي قال في التبيان : - علم الله إنكم كنتم تختانون انفسكم .... معناه ( إنهم كانوا لما حُرم عليهم الجماع في شهر رمضان بعد النوم خالفوا في ذلك فذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك الفريضة ) - التبيان ج2 ص133 ، أي لما كان الجماع في ليلة الصيام محرما - كنتم تختانون انفسكم - بمخالفتكم لهذا الحكم ، وهذا رأي الجماعة التي أعتمدت في تفسيرها على شأن النزول وسببه .
الثاني : هو رأي الجماعة التي رفضت مقولة - التحريم - ، لأن هذه الجماعة أعتبرت أن تقدير جملة ( علم الله إنكم كنتم تختانون انفسكم ) هو : - ان الله لو حرم عليكم الرفث إلى نساءكم في ليلة الصيام ، لكنتم تختانون أنفسكم - ، والتقدير هذا قائم على حجة منطقية وطبيعية تقول : - لو أن الله حرم الجماع ليلة الصيام ، فإن الغريزة والشهوة الجنسية ستتغلب مما يؤدي إلى الخيانة ، وبما إن الله لا يكلف بما لا يطاق وبما لا يتناسب مع الطبيعة ، لذلك لم يحرم الله الجماع في ليلة الصيام من الأصل ، والرأي الثاني هو الرأي الراجح عندي بدليل ما ذكرناه عن مفهوم - أصالة الحليَّة - المستمر مع وجود الحياة والإنسان ، كما أن مفهوم – هن لباس لكم - يدل على معنى الحاجة الطبيعية للجنس بالنسبة للإنسان ، فتحريم ومنع الإنسان من هذه الحاجة ظلم وقبح والله لا يفعل الظلم والقبح ، ولهذا حين نرجح الرأي الثاني على الرأي الأول إنما نرجح ذلك حماية للقانون الطبيعي ولعدم مخالفة الإنسان للشريعة .
ثم إن الكتاب المجيد حين يقدم هذا النص يأتي بشبيه له كما في قوله تعالى : - لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ( علم الله إنكم ستذكرونهن ) – البقرة 235 ، فلحن وطبيعة هذا النص يشبه طبيعة ولحن النص المتقدم ، وعبارة : - لا جناح عليكم - هنا من جهة الدلالة والمفهوم هو نفس مُراد ومفهوم عبارة : - أحل لكم - ولا فرق بينهما ، وفي كليهما نفهم التأكيد على - أصالة الحليَّة - ، ولو قارنا بين جملة : - علم الله إنكم ستذكرونهن - مع جملة : - علم الله إنكم كنتم تختانون - ، سنجد ان علة التحريم واضحة فيهما ، ففي العبارة الأولى : تكون العلة في عدم تحريم التذكر هو - كناية عن النساء في العدة - ، وفي العبارة الثانية : تكون علة عدم تحريم الجماع في ليلة الصيام ، ولا يقول أحد : إن التذكر مع الكناية في العدة كان محرماً في الإسلام ، ومع نزول هذا النص صار حلالاً !!! ، كذلك ولا نقول : إن الجماع في ليلة الصيام كان محرماً ، ثم صار حلالاً بعد نزول هذا النص !! .
وكلامنا في قوله تعالى : ( فتاب عليكم وعفا عنكم )
يتركز على كلمة - تاب - وكلمة - عفا - ، ومعنى - تاب - في اللغة هو فعل ثلاثي صحيح المصدر ، ومنه أشتقت كلمة - توبة أو التوبة – والتي هي في الكتاب المجيد تستخدم على نوعين :
الأول : حين تنسب إلى الله .
والثاني : حين تنسب إلى العبد .
فحين تنسب التوبة إلى العبد نجدها دائماً متعدية – بإلى - كما في قوله تعالى : - توبوا إلى الله توبة نصوحاً - التحريم 8 ، وحين تنسب التوبة إلى الله تتعدى - بعلى – كما في قوله تعالى : - لقد تاب الله على النبي والمهاجرين - التوبة 117 ، والتوبة : في الأصل تعني العودة و الرجوع ، وهي حين تُنسب إلى العبد فيكون معناها - الرجوع من الخطأ إلى الصواب ومن الكذب إلى الصدق وهكذا - ، وهي حين تُنسب إلى الله فيكون معناها - الرجوع - ، ولكن بمعنى الفيض واللطف على العبد ، ولهذا تعدت - بعلى - لأنها تشتمل على معنى الإفاضة ، والتوبة في كل الموارد التي يستخدمها الكتاب وتُنسب إلى الله فهي تعني المفهوم الكلي لمعنى الفيض واللطف الإلهي ، وإن من نتائج هذا اللطف هو:
1 - العفو عن الذنب كما في قوله تعالى : ( ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاؤُك فاستغفروا الله وأستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً ) - النساء 64 .
2 - وتخفيف التكاليف كما في قوله تعالى : ( ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مُسلمة إلى أهله .. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله ) - النساء 92 .
3 - وعدم جعل التكاليف إلزاميةً عينية كما في قوله تعالى : ( علم ان لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر من القرآن ) - المزمل 20 ، يقول الشيخ الطوسي في التبيان ج10ص 17 : - ومن هنا تكون صلاة الليل أمرا مستحباً - ، وعنده معنى ( علم ان لن تطيقوه ) هو - لم يلزمكم إثماً - ومعنى - لن تحصوه - هو لن تستطيعوا تحمل ذلك فتاب عليكم ، إذ جعل العبادة الليلية مستحبة وليست واجبة .
4 - و العناية الخاصة كما في قوله : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم ) - التوبة 117 ، لأن ذلك خارج حدود المعلوم ، والمقصود - بساعة العسرة - هو الكناية عن اللحظات الحرجة في معركة - تبوك - وما جرى فيها من أحداث زادت من صعوبة المعركة ، حتى قال بعضهم مستنكراً : ولماذا نحارب في مثل هذا الجو الحار والنقص في الأمدادات والغذاء ؟ ، و معركة تبوك هي المعركة التي وقعت بين جيش المسلمين وجيش الروم ، والنص يتحدث عن منطق بعض الصحابة الذين أصابهم خوف وقلق وفزع من هذه العوامل التي لا تساهم في النصر ، ولولا لطف الله وعنايته الخاصة لزاغ البعض وأنحرف ، إذن فنسبة التوبة إلى الله تعني حفظ الإيمان وروح العقيدة ، والحفظ المقصود هو التناسب بين الحكم والموضوع .
وللحديث بقية