سنواصل في هذه الحلقة البحث الذي بدأناه عن أسباب النزول في الكتاب المجيد ، ولكن هذه المرة سنبحث في الكتب والمصادر والتراث الشيعي ، ومن المفيد لنا وقبل الدخول في موضوعة البحث ، التنويه إلى ما جرت عليه عادة المفسرين وسعيهم وراء الخبر ظناً منهم إن ذلك سيسهل من مهمتهم البحثية والتفسيرية في معرفة نصوص الكتاب و آياته ، كما جرت العادة أن لا يقتصر السعي في كتب بعينها أو إتجاه بعينه ، إنما المهم في هذه العملية توخي الحذر والدقة والصدق والصلاحية ،
وكما ترون فان هذه المسألة ليست يسيرة بل تتطلب مزيداً من التحقيق ومزيداً من البحث ومزيداً من الاستقصاء ، ولما كان للفكر والتراث السُني سطوة وهيمنة بفعل غلبة العامل السياسي ، كان لذلك الواقع أثره المباشر في هيمنة وسطوة وغلبة الرواية والخبر السُني على الخبر والرواية الشيعية ، وغلبة محدثي أهل السنة على محدثي الشيعة ، وتلك حقيقة واقعية لا يجب نكرانها أو تجاوزها .
هذا الواقع الموضوعي يفرض علينا نوعاً من الرقابة والرصد والتحقيق والمتابعة للخبر السُني ، في مدى صلاحيته وصدقه وانطباقه على مضمون الكتاب المجيد وموضوعاته ، هذا من جهة ومن جهة ثانية : ان الرواية أو الخبر الشيعي لم يتسن له الوصول إلآَّ إلى البعض من المريدين والأتباع ، وتلك قضية معروفة تتعلق :
أولاً : بطبيعة ونوع الحكم السياسي الذي كان سائداً .
وثانياً : بطبيعة الإعلام الذي تتحكم به قوى السلطة .
ولهذا سادت الرواية والخبر السني على غيره ، مما جعل ويكأن الرواية الشيعية في هذا الباب إنما نسخت عن الرواية السنية بالحرف أحياناً وبالمضمون غالباً ، ولم يعترض على ذلك الوضع محدثي الشيعة ورواة أخبارهم ، ودليلنا على ذلك ما وجدناه في كتب الشيخ الصدوق على كثرتها ، والتي جاءت برواية سُنية أو لنقل إن معظم رواتها من أهل السنة ، وإلى ذلك أشار العلامة محمد باقر البهبودي في شرحه لكتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق ج1 ص 22 ، قال : - إنه من بين المائتين والخمسين من شيوخ الصدوق ومحدثيه ، منهم مئتين كانوا من رواة أهل السنة ومحدثيهم - ، ويؤكد ذلك ويدعمه قول الكشي في رجاله ص 590 : - إنه قد جرت السيرة بين محدثي الخاصة الرواية والنقل عن محدثي العامة - ، والكشي حين يتحدث عن السيرة فهو إنما يتحدث عنها بلحاظ الواقع الذي يربط بين الطرفين بعلاقة ثقافية وتبادل في رواية الأخبار ، ومن هنا قد يتعذر التمييز بين روايات الشيعة وروايات السنة ، وإلى ذلك أشار - الكشي في رجاله ص 590 عندما قال : - قال الفضل بن شاذان ، سأل أبي ، محمد بن أبي عمير البغدادي ، فقال له : إنك قد لقيت مشايخ العامة ، فكيف لم تسمع منهم ؟ فقال : - قد سمعت منهم غير أني رأيت كثيراً من أصحابنا قد سمعوا علم العامة وعلم الخاصة ، فأختلط عليهم حتى كانوا يروون حديث العامة عن الخاصة وحديث الخاصة عن العامة ، فكرهتُ ان يختلط عليّ فتركت ذلك وأقبلت على هذا - .
وفي هذه المحاورة نقرأ التالي :
1 - إنه في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني ، كان النقل و الرواية شائعة بين الشيعة والسنة ، وذلك ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزاً - بالتبادل الخبري بينهما - .
2 - وفي مثل هذا الواقع يتعذر التشخيص أو نسبة الرواية إلى طرف بعينه .
3 - وهذا القلق المعرفي رصده وأشار إليه محمد بن أبي عمير باعتباره صاحب خبرة في هذا المجال .
4 - وكذلك يتبين من نفس لحن المحاورة في الرواية ، أن رواة الشيعة لا يرون بأساً في النقل عن محدثي أهل السنة ورواة أخبارهم .
ودليلنا على ذلك الخلط الخبري ما رواه البيهقي بسنده عن أبي هريرة ، إنه قال : - قال رسول الله لا تقولوا - رمضان - فإن رمضان أسم من أسماء الله !!! ، ولكن قولوا شهر رمضان - سنن البيهقي ج4 ص 201 .
وقد روت الشيعة هذا الخبر بأسانيد مختلفة عن أئمة أهل البيت ، مع ان هذا الخبر ليس صحيحاً متناً ودلالةً ، وذلك لأنه :
أولاً : - يتناقض مع كتاب الله ونصوصه الواضحة كما في قوله تعالى : - شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن - البقرة 185 ، - ورمضان - في هذا النص هو لفظ دال على شهر معين محدد من أشهر السنة القمرية عند العرب ، وهو من أسماء الأعلام ، وأما لفظ - شهر – الوارد في النص: فهو لفظ عام أو قل لفظ كلي ومفهومه ينطبق على كل شهر من أشهر السنة ، ومع إضافة لفظ - رمضان - إليه ، يكون الشهر محدداً ومعيناً ومعلوماً ، ويكون الصيام فيه كذلك معروفاً ومعلوماً ، وتكون الأيام المعدودات والتي ورد ذكرها في الكتاب المجيد دالة على - رمضان الشهر - بعينه ، ولو لم يكن ذلك كذلك لأختلط في أذهان الناس ما المُراد منه وما المتعين ؟ ، وما هي الأيام التي يجب عليهم أن يصوموا فيها ؟ ، وفي أية شهر تكون من الأشهر القمرية ؟ .
فإن قلت : إنما المُراد من جملة - شهر رمضان – هو شهر الله .
قلنا : نعم هذا صحيح على إطلاقه ، بلحاظ كون كل الأشهر يصدق عليها القول إنها شهر الله ، ومن هذه الناحية فلا خصوصية ولا تمييز بينه وبين غيره .
أضف إلى هذا ، لو لم يكن - رمضان - هو شهر معين ومحدد ومعروف لدى العرب والمسلمين ، لجاء الدليل الخاص منه تعالى على تعريفه وتخصيصه وبيانه ، وهذا لم يحصل لكونه معلوماً عندهم ، ولم يحتج العرب والمسلمين لدليل خاص على ذلك ، وعليه يكون ما رواه ابو هريرة في هذا المجال ساقط من الاعتبار ، وذلك لمعارضته للكتاب المجيد ، وكل خبر يعارض الكتاب فهو مردود وتلك هي القاعدة ...
ثم ، إن لفظ - رمضان – من الالفاظ التي لا تقبل التصريف ، لوجود الالف والنون فيه ، وكذا لكونه - عَلَماً - معيناً لشهر محدد ومعروف ، ولو لم يكن ذلك كذلك ، لَقَبلَ التصريف ورفض التنوين ، ومنه يُعلم إن الله لما جعل الصيام في - رمضان - جعله بإعتباره علماً معروفاً لدى العرب ، ولو كان - رمضان - أسم الله ، كما يزعم أبو هريرة ذلك ، لوجب ان يقول : إنما وضعتُ أسمي للشهر الذي تصومون فيه وهو ما بين شعبان وشوال من أشهركم ، وهذا ما لم يقله الله ..
وثانياً : - إن لفظ - رمضان - ورد ذكره في روايات صحيحة وصريحة ، ومن دون ان يذكر لفظ - شهر - معه ، كقول الإمام الصادق : - إن أبواب السماء تفتح في ( رمضان ) ، وتصفد الشياطين ، وتقبل أعمال المؤمنين ، نعم الشهر رمضان - الكافي ج4 ص 157 ..
وفي هذا الخبر أستخدم لفظ - رمضان - أسماً مرتين بصيغة - العلم - لشهر رمضان ، وأما الجملة البيانية في قوله - نعم الشهر رمضان - فقد وردت في صيغة البدل أو العطف ، ويكون معناها : إن أفضل شهر هو رمضان - ، فلو كان - رمضان أسم لله - كما يزعم أبي هريرة ، لكان معنى الجملة هو : - نعم الشهر الله - !!!! ، ولا أظن ان عاقلاً يمكنه قول ذلك ..
وثالثاً : - روي عن الرسول – ص – قوله : - من ألحق في رمضان يوماً من غيره متعمداً فليس بمؤمن بالله وبيَّ - التهذيب للشيخ الطوسي ج 4 ص 161 ، وهنا جاء ذُكر - رمضان - أيضاً من غير لفظ - شهر - معه ، وذلك لأن - رمضان - اسم لشهر معلوم معين ومعروف ، ولو كان الأمر كما قال أبي هريرة لكان معنى هذه الرواية هو : من الحق في الله يوما من غيره متعمدا فليس بمؤمن بالله وبيّ - !!! ، وهذا كلام فاسد كما هو واضح ...
وخبر – أبي هريرة – هذا تلقفه رواة الشيعة ونقلوه عنه بأسانيد مختلفة كما ورد ذلك في الكافي وعلى هذا النحو ، عن : - عّدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصير عن هشام بن سالم عن سعد عن أبي جعفر الباقر قال : ( كنا عنده ثمانية رجال فذكرنا رمضان فقال : لا تقولوا هذا رمضان ولا ذهب رمضان ولا جاء رمضان ، فإن رمضان أسم من أسماء الله عز وجل لا يجئي ولا يذهب ، وإنما يجئيُ ويذهبُ الزائل ، ولكن قولوا : شهر رمضان فإن الشهر مضاف إلى الاسم والاسم أسم الله عز ذكره ..) - الكافي ج4 ص 69 .
والمؤسف إن هذا الخبر يُنسب روايته إلى أئمة أهل البيت ، وهي نسبة خاطئةٌ بأمتياز لأنها إنما جاءت بفعل ذلك الإختلاط الذي تحدث عنه محمد بن أبي عمير البغدادي ، وسند الخبر هذا في الكافي ليس صحيحاً لوجود - سعد بن طريف – فيه ، والذي قال عنه أبن الغضائري : - ضعيف لا يمتنع عن الكذب - مجمع الرجال للقهبائي ج3 ص 104 ، وسعد بن طريف هو ( سعد بن طريف الحذاء أو سعد بن طريف الخفاف أو سعد بن طريف الإسكاف ) ، وهو من سكنت الكوفة ، وكانت تربطه مع الحكم بن عتيبة وعكرمة وعمير بن مأمون وخلف بن خليفة وعلي بن مهر وسفيان بن عيُينه وابو معاوية وابن عُليّه ، روابط في روايات الحديث ونقله - تهذيب التهذيب للعسقلاني ج3 ص 473 ، التاريخ الكبير للبخاري ج4 ص 59 ، والجرح والتعديل لأبن أبي حاتم ج4 ص 87 ، والمجروحين لأبن حبان ج2 ص 357 ، وميزان الإعتدال للذهبي ج2 ص 122 - ، وضعف سعد بن طريف كما يقول أبن الغضائري يظهر في روايته ونقله للأخبار من غير تحفظ ، ومن ذلك ما نسبه للإمام الباقر في قوله : إن رمضان أسم الله !!! ، وعلى كل حال فرواية الكافي التي جاءتنا عن طريق سعد بن طريف ، تألف سندها من أربعة وسائط :
الأولى : عّدة .
الثانية : أحمد بن محمد ( وهو أما أحمد بن محمد بن خالد البرقي ، أو أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ) .
الثالثة : أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي .
الرابعة : هشام بن سالم .
والحق ان هذه الوسائط الأربعة هي وسائط معتبرة ، ولكن إعتبار هذه الوسائط وصحتها لا يدل على صحة وإعتبار الخبر والرواية ، خاصةً مع وجود سعد بن طريف فيها .
وللتنبيه نقول : إن الناس ومن فرط محبتهم للنبي وأهل بيته ، يصدقون كل خبر يُنسب إليهم ، وإن كان ذلك الخبر مجرد كلام ، بل يذهب البعض من رجال الدين إلى التمسك بهذه الأخبار مع تهافتها وفسادها ومخالفتها للكتاب المجيد ، وإن قيل لهم ذلك ، قالوا إنما نعمل في الإحتياط خوفاً وخشيةً ، قال المجلسي في مرآة العقول ج16 - والأحوط العمل بهذا الحديث - ، أي إن الأحوط عنده أعتبار رمضان أسم لله !!!! ، ولم يلتفت صاحب - المرآة - إلى معارضة هذا الخبر لكتاب الله ولا للأخبار الصريحة والصحيحة عن النبي ، والتي ورد فيها ذكر رمضان من غير إضافة الشهر إليه ، ولم يكن المجلسي وحده غارق في بحر الأوهام وعدم التحقيق من الروايات والأخبار ، بل تبعه أبن طاووس ووقع بنفس تلك الخطيئة حين نسب الى الامام علي قوله : - لا تقولوا رمضان ، وقولوا شهر رمضان ، ومن قال رمضان وجبت عليه الكفارة ... - الإقبال لأبن طاووس ص 3 ، ونفس الشيء قاله في كتاب الجعفريات المرفق بكتاب قرب الأسناد ص 59 - ، وإذا كان ذلك كذلك ، فهل يجب على النبي وعلى الإمام الصادق دفع الكفارة لأنهم ذكروا رمضان من غير إضافة لفظ الشهر إليه ؟ !! أظن سيقول المتنطعين ، نعم تجب عليهم الكفارة !!!!! .
وللحديث بقيه