عندما تقع قراءتنا لحدث ما فريسة سهلة في شباك منطلقات ايديولوجية مغلوطة، تكون النتائج التي نتوصل اليها خاطئة لا محالة، لكن عندما تتحول هذه القراءة المؤدلجة الى ثوابت ومسلمات عالمية يرددها الكل من دون تفكير، عندها نكون قد وقعنا ضحايا لأكبر عملية نصب سياسية وإعلامية في العصر الحديث.
وهذا هو ما حدث بالضبط لقراءة الاعلام العالمي وقسم كبير جدا من النخب السياسية، للحرب الامريكية في العراق، على الأقل في سياقها التاريخي والعلاقة السببية التي تربط بين العوامل المتداخلة في هذه القضية المعقدة الشائكة، والتي اخضعت بكل سهولة وبساطة لأكبر عملية تسطيح.. ولكن لنبدأ من البداية. بعد شد وجذب كبيرين، أعلن الرئيس بوش عن استراتيجيته الجديدة في العراق، وجاءت هذه الاستراتيجية نتيجة لعملية مراجعة للاستراتيجيات القديمة التي تبناها الرئيس الامريكي في الماضي. القراءة العالمية لهذا الحدث تقول بأن تراكم الأخطاء التي ارتكبتها هذه الادارة في العراق، أدى الى نكسات عسكرية وسياسية وأمنية، مما خلق حالة انقسام داخلي أمريكي، وهذا الانقسام الذي تسلل الى كل مفاصل الاعلام والسياسة في امريكا هو الذي حتم على الرئيس بوش العمل على مراجعة استراتيجيته القديمة ومحاولة تبني استراتيجية جديدة. مشكلة هذه القراءة هي انها سطحية الى درجة كبيرة، ومغلوطة لأنها تخلط الأمور ببعضها البعض وتشوه الترتيب الزمني للأحداث ولتأثيرات العوامل المتداخلة في القضية. في مراجعة سريعة للحرب في العراق، نجد ان الحقيقة مغايرة تماما لهذه القراءة التي أخضعت لعملية تعميم عالمية بحيث تحولت الى نوع من انواع المسلمات، وبذا فقد اصبحت القراءة العالمية الوحيدة التي يلجأ اليها الاعلام العالمي في نظرته لهذه القضية التي هي في حقيقتها قضية عالمية. فالترتيب الزمني للأحداث كما وقعت فعلا، لا يؤيد هذه القراءة، بل بالعكس تؤدي بنا الى نتائج مغايرة تماما. هذه الادارة ارتكبت في العراق من الاخطاء ما يصل الى مستوى الحماقات، وهي لا تنفي انها ارتكبت أخطاء كثيرة، حتى ان الرئيس الامريكي قد اكد في مناسبات عديدة انه يتحمل شخصيا نتائجها. لذا فالمسألة ليست مسألة الإقرار بوقوع أخطاء، أو الدفاع عن سياسات امريكية معينة والقفز على الحقائق ومحاولة التغطية على اخطاء لم تنفها الادارة الامريكية نفسها، فلماذا نقوم نحن بذلك؟ لكن المسؤولية الاخلاقية والسياسية تحتم علينا توخي الدقة في قراءتنا حتى نتوصل الى حقيقة الامور كما هي، لا كما يحاول البعض تحميلنا إياها. المؤكد هو ان هذه الحرب قد خلقت اكبر انقسام في العالم، هذا الانقسام طال حتى اقطاب الادارة الحالية. لكن هذا الانقسام لم يأت كنتيجة للهزائم الامريكية في العراق، بل هي ظهرت حتى قبل البدء بالعمليات العسكرية، لا بل ان ظهورها يسبق تلك الفترة بكثير. الادارة الامريكية حاولت التوصل الى انتزاع نوع من انواع الاجماع الدولي لحربها في العراق، وعندما فشلت في كل هذه المحاولات قررت دخول الحرب مع بعض من حلفائها، وهو ما اعتبر حينها انفرادا امريكيا يستهدف فرض الهيمنة على كل العالم. اذن فالانقسام كان موجودا قبل الحرب وبقوة، وهو لم يأت كنتيجة للهزائم الميدانية، كما تحاول القراءة المؤدلجة ان تصور لنا. والحقيقة هي ان العلاقة السببية التي تربط بين حالة الانقسام ووقوع الاخطاء الامريكية في العراق معكوسة تماما. فالانقسام الذي كان موجودا هو الذي ادى الى خلق ظروف كان النجاح فيها مستحيلا.. هذه الظروف شكلت المناخ العام الذي حدثت في ظله كل هذه الامور، وفي ظل هذه الظروف وقعت الادارة الامريكية في شرك معركة داخلية مع اطراف حاولت التشكيك في النصر منذ البدايات الاولى لبلورة فكرة غزو العراق وإطاحة نظام صدام، مما ادى الى خلق حالة تردد اصابت مفاصل القرار الامريكي في صميمه. وهذا الكم الكبير من التشكيك والتردد اسهم بشكل كبير في منع الادارة من تنفيذ افكارها وخططها بالشكل الذي كانت تراه، وترتب على كل ذلك، الهزائم الكثيرة في الميدان. فالفشل جاء كنتيجة حتمية لعدم تنفيذ الافكار والخطط كما ينبغي.. وكما رأينا فإن عدم التنفيذ هذا جاء بدوره كنتيجة للانقسامات الكبيرة التي طالت حتى اقطاب الادارة الحالية، والحقيقة ليست هذه هي المرة الاولى التي تؤدي فيها الانقسامات الداخلية الى كوارث سياسية في امريكا، وهي لن تكون المرة الأخيرة بالتأكيد، فطبيعة الحياة السياسية في امريكا تسمح بحدوث مثل هذه الأمور. في نهاية التسعينات من القرن الماضي وقع الرئيس الامريكي الأسبق جيمي كارتر ضحية انقسام وصل الى حد صراع شرس ومرير بين وزير خارجيته سيروس فانس ومستشاره لشؤون الأمن القومي زبيغنيو بريجينسكي. حدة الصراع بين هذين الرجلين واختلاف رؤيتهما المتناقضة مع بعض اوصلا الرئيس والإدارة الى ما يشبه حالة العجز التام، وحولت الرئيس كارتر الى احد اضعف الرؤساء في كل تاريخ امريكا. وأدى الأمر الى ان خسرت الولايات المتحدة الامريكية ايران، لا بل انها خرجت من ايران بفضيحة فشلها العسكري في انقاذ رهائنها من داخل الاراضي الايرانية، فكانت هزيمة سياسية وعسكرية واستراتيجية بكل المقاييس. التذكير بهذا المثل لا يستهدف سوى التأكيد على ان هذه الحالة ليست طارئة على الحياة السياسية الامريكية، وأنها يمكن ان تتكرر في كل زمان ومكان. بقي ان نقول بأن القراءة الايديولوجية المغلوطة التي قدمها الاعلام العالمي لما حدث فعلا، ليست بريئة الى الحد الذي يمكننا من وصفها بالسذاجة، وللدقة يجب ان نقول بأن النسبة التي فرضت هذه القراءة منذ البداية تشكل اقلية ضئيلة.. وهي لم تفعل ذلك عن عدم دراية، بل هي فعلت ذلك عمدا وعن سبق اصرار وترصد، مستهدفة بذلك فرض قراءتها المؤدلجة على كل العالم ويجب ان نعترف بأنها نجحت في ذلك، اما البقية من الاعلام العالمي وبقية العالم فقد وقعنا ضحية لأكبر عملية تضليل سياسي وإعلامي في العصر الحديث. من هنا تشكل عملية اعادة قراءة الأمور مهمة تستهدف الوصول الى الحقائق وبعيدا عن محاولات التضليل الايديولوجي، وتشكل في نفس الوقت مدخلا للحديث عن انعكاسات هذه القراءة المغلوطة في مناسبات أخرى.