بحلول أمس الأول الذي ألقى فيه الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما خطاب تنصيبه وقوفاً على عتبات قبة الكونجرس الأميركي، كان العالم قد اعتاد سلفاً على النبرة العامة لخطابية الرئيس ومحتوى فلسفته،
إلى جانب اعتياده على مخططات أوباما العامة المعنية بإنقاذ اقتصاد بلاده من الأزمة المتفاقمة التي يمر بها الآن، وعزمه على تحسين صورة أميركا في مختلف أنحاء العالم.
وبرغم ذلك، فقد كان مشهداً مثيراً ومؤثراً أن نرى الانتقال السلمي للسلطة، من إدارة الرئيس السابق جورج بوش، إلى خلفه باراك أوباما، قبل أن يغادر بوش البيت الأبيض متجهاً إلى الكونجرس بصحبة أوباما لحضور مراسم التنصيب الرسمي لخلفه الجديد. وفي الوقت نفسه يشير انتظار ما يزيد على مليون مواطن أميركي، وآلاف الزوار الأجانب للولايات المتحدة، لعدة ساعات مستمرة في طقس شديدة البرودة حرصاً على حضور مراسم هذه المناسبة التاريخية، إلى مدى الإثارة والآمال التي انطوى عليها انتخاب أوباما وفوزه.
وقد كان خطاب أوباما قصيراً محكماً ومحتشداً بالمعاني. فهو لم يترك أي مجال للشك في قوة عزمه على أن يكون رئيساً يرمي لإحداث تحول جذري في مسار بلاده، بدلاً من أن تكون إدارته مجرد إدارة انتقالية شأنها شأن الإدارات السابقة التي تعاقبت على البيت الأبيض. ولكنه لم يسترسل كثيراً في الخطابة العامة، إنما فضل الدخول إلى صلب الموضوع مباشرة بقوله: إن تكون بلادنا في قلب الأزمة، فهذا مفهوم جداً الآن. فهي تخوض حروباً خارجية، بينما يعاني اقتصادها ضعفاً مريعاً". وفي مواجهة هذه التحديات الكبرى جميعاً صدرت عن أوباما أهم تصريحاته على الإطلاق، التي عبر عنها في كلماته التي يتوقع لها أن تتردد على امتداد الأيام والأسابيع المقبلة، وذلك بإشارته إلى "فشلنا الجماعي في اتخاذ القرارات والخيارات الصعبة، وتجهيز الأمة لمواجهة عصر جديد". وفي السياق نفسه استطرد أوباما ببلاغته المعهودة إلى القول، إن الحلول لهذه التحديات والمشكلات لن تكون سهلة ولا في متناول الرغبة واليد، كما أنها لن تتأتى لنا سريعاً كما نشاء. لكننا سوف نصل إليها ونحققها رغم ذلك طالما أننا "اخترنا الأمل بديلاً للخوف، ووحدة الهدف بدلاً من النزاع والخلاف". ثم استطرد أوباما إلى القول: "وابتداء من اليوم، علينا أن ننهض وننفض غبار الماضي عن أنفسنا، ونبدأ فعل إعادة تشكيل أميركا من جديد".
ما يثير الاهتمام في خطاب أوباما، ذلك النداء المباشر الذي وجهه إلى العالم الإسلامي بقوله: نحن نبحث عن سبيل للتقدم نحو الأمام، على أساس المصالح والاحترام المتبادلين".
وبسبب إيجاز الخطاب الافتتاحي الذي يلقى عادة في مثل هذه المناسبات التاريخية، لم يقل أوباما كلمة واحدة أو يخض في أي تفاصيل لها صلة بالخيارات التي سوف يتخذها في صدد هذا التغيير الذي وعد به، إلا إنه يفهم من إلحاح وآنية الرسالة التي وجهها في خطابه المقتضب، توقع الإعلان قريباً عن عدد من السياسات الداخلية الجديدة.
ولكنه كان واضحاً ومباشراًَ كذلك في تطرقه لقضايا السياسات الخارجية لإدارته، فقد أكد على دور وأهمية التحالفات الدولية، وعلى الحاجة لاستكمال القوة العسكرية بالتواضع والتقيد في استخدامها. كما شمل خطابه تأكيداً على تنوع وتعدد الخلفيات التي ينتمي إليها المجتمع الأميركي بقوله: "نحن أمة للمسيحيين والمسلمين واليهود والهندوس وغير المتدينين على حد سواء". كما أشار أيضاً إلى أن الأمة الأميركية لم تنهض قوية من المآسي التي مرت بها عبر تاريخها الطويل، إلا لأنها عانت ويلات الحرب الأهلية والفصل العنصري". ومما يثير الاهتمام في خطابه، ذلك النداء المباشر الذي وجهه إلى العالم الإسلامي بقوله: نحن نبحث عن سبيل للتقدم نحو الأمام، على أساس المصالح والاحترام المتبادلين". وفيما يتصل بالعراق، أكد الرئيس تعهده الانتخابي السابق بـ"الانسحاب المسؤول "منه و"دعم السلام الذي تحقق بصعوبة جمة في أفغانستان".
وكان واضحاً أن الخطاب، بل مراسم التنصيب كلها، قد خطط لها على أن تجرى أمام خلفية للثنائية الحزبية التي تحتاجها أميركا لا محالة في مواجهة الأوقات والظروف العصيبة التي تنتظرها. وقد أشار أوباما إلى هذه الأوقات بقوله في عباراته الختامية: "شتاء مصاعبنا". ولما كان وصول أوباما إلى البيت الأبيض بشعبية غير مسبوقة منذ عهد الرئيس الأسبق رونالد ريجان، فلا بد أنه سوف يستمتع بشهر عسل حلو مع مواطنيه. وهو بحاجة ماسة إلى هذا الشهر. فمنذ يومه الأول في البيت الأبيض، سوف يتعين عليه اتخاذ ما يلزم من إجراءات لمعالجة علل الاقتصاد القومي الذي لن يسكت عن وضعه الحالي عدد كبير من أعضاء الكونجرس، بانتمائهم "الديمقراطي" أو"الجمهوري" على حد سواء. وسيكون أوباما بحاجة مستمرة لدعم الشعب الأميركي له، بما يمكنه من تطبيق سياساته الجديدة التي وعد بها.
كما يتوقع له أن يرتكب الأخطاء وأن يخفق في بعض مجالات سياساته المعلنة. ومن المؤكد أن يخضع أوباما لاختبار صعب قاس في القضايا ذات الصلة بالأمن القومي، ما أن يتعين على خطابيته الاشتباك بتعقيدات الواقع ومصاعبه، لكونه واقعاً يرتبط بعالم فوضوي معقد وعلى درجة عالية من الخطورة. ولذلك فسيكون شهر العسل هذا قصيراً نسبياً قبل أن يبدأ الخوض العملي في صعوبات المهام التي تنتظره. ورغم ذلك، وفيما لو كانت مشاعر الحماس والإثارة الشعبية التي تجلت مظاهرها في مراسم التنصيب كما رأيناها في العشرين من الشهر الجاري، مؤشراً فعلياً يمكن التعويل عليه، فإن من المتوقع أن تواصل شعبيته ارتفاعها على امتداد العامين القادمين من ولايته على أقل تقدير.